الحديث السابع والثلاثون حديث الملأ الأعلى


محمد حسين ال يعقوب

- عَنْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وابن عباس رضي الله عنهما - دخل حديث بعضهما في بعض - قَالَا: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَال لَنَا: "عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ". ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأتُ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي، فَاسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رب. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ". قَالَهَا ثَلَاثاً قََالَ: "فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ والدرجات. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمِكْرُوهَات قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِك عَاشَ بخير وَمَاتَ بِخير وَكَانَ مِنْ خطئيتِه كيوم ولدته أمه. قَالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا".

 

الحكم على الحديث:

المسند (3484، 22109)، سنن الترمذي (3235).

وقال الألباني رحمه الله: صحيح. صحيح الترمذي (2582). 

أهمية الحديث

1- زيادة حب المصطفى صلى الله عليه وسلم في القلب بمعرفة بعض أحواله الشريفة صلى الله عليه وسلم.

2- معرفة علو قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الله.

3- معرفة الكفارات والدرجات. 

غريب الحديث

1- ذات غداة: ذات صباح.

2- نتراءى: نرى.

3- فثوب بالصلاة: أقيمت.

4- تجوز في صلاته: خففها.

5- على مصافكم: الزموا أماكنكم.

6- انفتل: انصرف.

7- فنعست: بداية النوم.

8- فاستثقلت: ذهبت في النوم.

9- الملأ الأعلى: الملائكة، أو المقربون منهم.

10- يختصم: يتراجع القول.

11- إسباغ الوضوء: إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المغطي للبدن كله.

 

فوائد الحديث

1- اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، اللهم أجز عنا نبينا خير ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه. 

صلى الله عليه وسلم ينقلنا من الماضي السحيق في حديث الغلام وأصحاب الأخدود، إلى المستقبل البعيد حيث لا جماعة ولا إمام، إلى الملأ الأعلى في السماوات العلا لنرى ما يحدث هناك، وفيم يختصون، وعم يتكلمون، فصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله وصحبه. 

2- "فيم يختصم الملأ الأعلى؟". إنها نقلة خطيرة لننتقل من هذا العالم الأرضي السفلي إلى علوي ملائكي فيه كلام أخروي، إنها نقلة نحتاجها دوماً لنترك الأرضيات والسفليات والشهوات وكلام الناس لننطلق في السماء الرحبة بعيداً عن هموم الناس وأهوائهم. 

3- في نومه صلى الله عليه وسلم في صلاته ما يُسرى عن قلب المؤمن الذي يحصل له ذلك أحياناً، فيخشى على نفسه، ويسعد قلبه أيضاً حديث:

"مَا مِنْ امْرِئٍ يَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ مِنْ اللَّيْلِ يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلَّا كَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ"

(1). 

4- الملأ الأعلى يختصمون؟! إنهم مهتمون بأحوال المؤمنين الذين يعيشون في الدنيا، مهتمون لأمر صلاحهم وتوبتهم، مهتمون بأمر كفاراتهم ودرجاتهم؛

{ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِۦ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَٱتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ} [غافر: 7].

 

5- "لا أدري". هكذا ببساطة، هكذا بسرعة، وينبغي لنا أن ننقلها، أن تكون أسرع كلمة على ألسنتنا حين لا ندري، بلا كبر، ولا غطرسة، "لا أدري" نجاة، و "لا أدري" بنية صالحة وتواضع وانكسار وإظهار الفقر والحاجة والتوسل بها إلى الله أن يعلمك؛ سبب أن يعلمك الله ويفهمك.

 

6- "الكفارات". كأن الملائكة حين استشعروا منذ البداية {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ} [البقرة: 30]. فجعل الله سبحانه المخرج من ذلك الإفساد والدماء كفارات ليطهرهم من خطاياهم أولاً بأول.

______________________


أخرجه أحمد (25464). وقال الأرنؤوط: حسن لغيره. 

7- الكفارات كلها في الصلاة وأسبابها؛ ابتداء من الوضوء، ثم المشي إلى المساجد، ثم المكث في المسجد بعد الصلاة، فليكن هم قلبك الصلاة وكل ما يتعلق بها تكن لك نجاة في هذه الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظون" (1).

 

8- "الدرجات"؛

قال تعالى: {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163]. وقال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلَّا لَهُۥ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]. ليسوا سواء في المقامات، كل على حسب علمه وعمله وحاله مع الله، فاعمل على أن ترفع مقامك بتلك الأعمال.

 

9- "الدرجات". في المعاملة مع الخلق والمعاملة الخاصة مع الرب؛ مع الخلق إطعام الطعام ولين الكلام، وهذا ما يجلب حسن المعاملة، طيب المقام، وصلاح البال. 

ومع الرب الصلاة والناس نيام؛ كأنها الخلوة مع الحبيب، وصفاء السر، ونقاء السريرة بالإخلاص والمعاملة مع الله دون علائق. 

10- قال الله: "سل". سبحان الملك! بعد أن تجلى للنبي صلى الله عليه وسلم كل شيء، وعرف كل شيء، حينها "سل". هكذا حين تعلم ستعرف كيف تسأل. 

سأل صلى الله عليه وسلم فعل الخيرات وترك المنكرات

فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدنيا والآخرة.

______________________

أخرجه الطبراني (8739)، وفي الأوسط (2224). وقال الألباني: حسن صحيح.

صحيح الترغيب والترهيب (357).

 

 

سأل صلى الله عليه وسلم حب المساكين

والمساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل، فالإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل؛ وهو حب في الله، وهذا أوثق عرى الإيمان. 

سأل صلى الله عليه وسلم المغفرة والرحمة

والمغفرة تستر الذنب، والرحمة تدخل الجنة، فهما يجمعان خير الآخرة كله. 

سأل صلى الله عليه وسلم الوقاية من الفتن

إشارة إلى طلب العافية، واستدامة السلامة إلى حسن الخاتمة، ولمن ابتلي فصبر فواها! 

سأل صلى الله عليه وسلم أن يحبه الله

وهذا هو المطلب الأعلى المراد؛ أن يبلغ هذه الدرجة العظيمة. 

11- تلك الدعوات الجامعات التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مقام القرب من ربه ينبغي علينا أن نحفظها ونلزمها، ودعك من كثرة الكلام والتأليف؛ فهما يحجبان كل خير. 

12- ألا يستثير همتك ويستجيش صدرك وصبرك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها حق فادرسوها ثم تعلموها".

فلا بد من الدراسة ثم التعليم بالعلم والعمل وهكذا شأن الرباني دوماً. 

قال تعالى: {كُونُوا رَبَّٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].

 

اللهم علمنا ما ينفعنا، وألزمنا سنة نبيك

وحبب إلينا اتباعه ولزوم قوله وفعله

وكفر خطايانا، وارفع درجاتنا يا ربنا الكريم

 

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الحديث السابع والثلاثون حديث الملأ الأعلى

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day