موسى وعيسى ومحمد ..والنقطة البؤرية للتوازن التاريخي


د. هيثم طلعت علي سرور

الثقافة والحضارة .. آدون وآتون وآدونيس ..

 

للحضارة عصرها الحجري وعصرها الذري أما الثقافة فليس فيها تطور من هذا القبيل من وجهة النظر الحضارية يعتبر العصر الحجري الحديث متقدما عن العصر الحجري القديم بينما من وجهة نظر الثقافة فإن العصر الحجري الحديث يعتبر انتكاسة -1- ورسوم الكهوف والطقوس المنقولة عن تلك الفترة هي مؤشرات ذلك.

الثقافة في استقلال عن الزمن .. بينما الحضارة تتقدم بتقدم الزمن .

 

يقول ماركس : التاريخ لا يمشي على رأسه . وهذا صحيح بالنسبة للحضارة لكن الامر يختلف بالنسبة للثقافة فالتوحيد وعبادة إله واحد - وهو أعلى مراحل التقدم الثقافي - كان سابقا على التعدد وصناعة الآلهة وهذا ما يقول به مؤلفون امثال لانج وباسكال وشميث وبروس وكوبرز وغيرهم -2-.

كانت أمريكا عند اكتشافها متخلفة من خمسة إلى ستة آلاف سنة عن العالم القديم لم تكن في ذلك الوقت قد لحقت بالعصر الحديدي .. لكن هذا المقياس الزمني لا يمكن تطبيقه على الفن الأمريكي فالتقدم الثقافي الذي عاشته حضارة المايا كان مبهرا ولا نستطيع فك ألغازه إلى الآن ويقول أحد المعلقين على صور معبد البونامباك هذا الفن الجاد الرقيق الذي اتسع مجاله التعبيري من البساطة المدهشة إلى الأسلوب الباروكي الحافل بزخرفته قد بقي سرا إلى اليوم -3-. فالثقافة مستقلة عن الزمن بل إنها دائما تتوقف ثم تبدأ من جديد وهذا تفسير ما قاله الفلاسفة أن الفلسفة بعد أفلاطون لم تحقق أي تقدم على الإطلاق .. كَتَبَ أرسطو ثلاث كتب علمية - في الطبيعيات .. في السماوات.. في الأرض - هذه الكتب الثلاثة لا توجد اليوم فيها جملة واحدة صحيحة علميا .. بينما كتابات الأنبياء الاخلاقية لا تزال صالحة إلى اليوم .

الحضارة تنتمي إلى عصرها فقط بينما الثقافة تنتمي إلى كل العصور.

 

الأنبياء ومُعلمي البشرية اتفقوا دون اجتماع على خط ثقافي أخلاقي روحي واحد أراح المحاكم من آلاف القضايا لكن اللغز الأكبر انهم جميعا لم يكونوا علماء إن حقائق الثقافة تخفى على الحكماء والمتعلمين ولكنها تنكشف للبسطاء .

 

إن المبادىء والتعاليم التي تلقاها موسى من آدون - السيد أو الإله بالعبريه وأدوناي متكررة كثيرا بالكتاب المقدس - هي نفسها المبادىء والتعاليم التي تلقاها إخناتون من آتون - ولم تكن الشمس إلا رمزا له ولو كان يعبد الشمس لما قاومه كهنة المعابد الفرعونية - هي نفسها المبادىء والتعاليم التي تلقاها المعلمين اليونان من أدونيس - حرف السين يُضاف في اليونانية على الإسم العَلم - إن الثقافة تبحث في الإنسان بينما الحضارة تبحث في الأرض .

 

يوجد إلحاد حضاري وإلحاد علمي .. لكن لا يوجد إلحاد ثقافي فالإلحاد المُجرد لا يوجد فيه حتى الفن وإذا كان الواقع يشير إلى وجود فنانين ملحدين اسميا فإن هذه ظاهرة نادرة جدا ويمكن ارجاعها إلى تناقض في الإنسان نفسه حيث ترجع إلى الاستقلال النسبي للمنطق الواعي عن العفوية وهو استجابة نوعية للضغوط التي تتنازع الملحد بين الأرض والسماء لكنها جاءت في صورة فن لا في صورة خضوع لله -4-.

 

بينما يقف موسى وهارون في جانب يقف السامري وعجله في جانب آخر .. وبينما يقف المسيح وإنجيله في جانب يقف بولس وكنيسته في جانب آخر .. وبالجملة بينما تقف الثقافة في جانب يقف الإلحاد المُجرد في جانب آخر .

 

في المؤسسة الثقافية العقوبة بالإعدام والقصاص لها ما يبررها بل وتتفق مع الكرامة الإنسانية للمجرم - على حد تعبير هيجل - بينما في المؤسسة الحضارية فإن العقوبة القاسية تعني فك جزء من المجتمع وإلقاؤه بلا عودة وبالتالي فهي قاسية .. في الحالة الأولى نجد تفسير إنساني بينما في الحالة الثانية نجد تفسير آلي لا إنساني تُذكرنا الحالة الأُلى بالتمهيد السماوي والحياة الأخرى بينما تذكرنا الحالة الثانية بدارون .. في الحالة الأولى الجريمة هي انتهاك لنظام أخلاقي ولحرمة الإنسان وقداسته وبهذا نستطيع أن نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ) فهنا رفع لقيمة الإنسان باعتباره إنسان بينما في الحالة الثانية الأمر لا يعدو مجرد تعامل مع آلات وتروس أو قل حيوانات الأرض وطنها الوحيد ولا حياة أخرى لها المؤسسة الثقافية تتعامل مع الإنسان بينما المؤسسة الحضارية تتعامل مع اللاإنسان ..

العبيد كانوا سبب الرقي في المجتمعات الثقافية وعلى حد تعبير ماركس :- ( المجتمعات التي تملك العبيد كانت أرقى المجتمعات ثقافة .) بينما العبيد هم سبب المظاهرات والإحساس بالإضطهاد في المجتمعات الحضارية .. وبينما يُعامَل المُغترب في مؤسسة ثقافية على أنه إبن سبيل يلزم وجوبا ضيافته وإكرامه يُعامل في مؤسسة حضارية كعبد يلزم استغلاله بأبخس الأثمان ما أمكن .

والذين تخلصوا من العبودية للبشر صاروا عبيدا للتروس والمصانع إن عبودية المؤسسة الثقافية هي سيادة في المؤسسة الحضارية وإننا لا نقصد بذلك القضاء على الحضارة فإننا لن نستطيع ذلك حتى لو تمنيناه من كل قلوبنا لكن فقط نريد أنسنة الحضارة .



 لا مكـان للفـن في الإلحـاد..!!

 

عندمـا سأتكلم عن الفـن فلا أقصد بديهيا فن الرقصـات وإظهـار العورات أو فن أغاني المراهقيـن أو فن تمجيد السُلطـات ..لكن مقصدي هو الفن الراقي الذي يتناول درامـا الوجه الإنساني .

إن العلم عندما يواجه الإنسان فهو يبحث فيه عما هو ميت وعما هو لا شخصي بينما عندما يتناول الفـن الإنسان فإنه يبحث فيه عما هو إنساني وغائي فالفن في صِدام طبيعي مع العالم ومع جميع علومه إنه التمرد الصامت وإذا لم يوجد على الإطلاق سند للإنسـان ولا مجال لروحه ولذاته فإن الفـن لا مجال له وان الشعراء وكُتـاب التراجيديا يضللوننا ويكتبون هراء لا معنى له.

 

إن وجود عالم آخر إلى جانب عالم الطبيعة هو المصدر الأساسي لكل دين وفن .. فإذا لم يكن هُنـالك سوى عالم واحد لكان الفن مستحيلا والمعرفة في الفن لا تُكتسب بطريقة عقلانية علمية وإنما تُكتسب بطريقة حَدسيـة و عندما يقوم العلم برسم لوحة فإن سيرسم وجه قرد ممسوخ يقوم بدراسته دراسة آلية أما عندما يقوم الفن برسم لوحة فإنه سيرسم دراما وجه الإنسان .. فالفن هو ثمرة الروح وإذا لم يتم الإعتراف بوجود الخلاص والعالم الآخر والروح فالفن عبث ولا قيمة له وغير موجود أصلا .

 

الفن يتجاهل ظواهـر الأشيـاء يهتم بالبواطن والفن التجريدي مثلا يقوم بحذف كُل شَبه بالعالم الخارجي مُعطيـا للشكل واللون معنىً روحيـا وبإقصاء الجانب الروحي بعيدا وبإنكار وجود الحياة الجوانية داخل كل إنسان منـا فإن أعظم اللوحات في العالم تقاس قيمتها بحسب نوع الورق المستخدم في الرسم وثمن الألوان والأصباغ الموجودة على اللوحة .. وروعة الموناليزا لا تكمن في ثمن الألوان المرسومة بها وإنما تكمن في أنها من أنجح المحاولات لتصوير سر الحياة الجوانيـة فالحقيقة الوحيدة التي يعترف بها الفن هو الإنسان وشوقه المستمر للوصول للفردوس والخلود .

الفن بطبيعته وباعترافه بوجود عالم آخر فهو يحمل معاني ثورية يحمل كُفر بالعالم المادي .. وهذا ما فهمه الرسام الفرنسي الشهير دي بيفيه حين قال :- ( الفن في جوهره غير مريح لا فائدة منه ضد المجتمع وخطر عليه.)

 

جوهر الأعمال الفنية غامض غموضـا تاما إنه تمرد دائم على الواقع .. إنه اعتراف متكرر بوجود عالم آخر لا ننتمي إليه وسنذهب إليه يومـا ما ..اعتراف بمعاناة الإنسان على الأرض وعجزه عن تحقيق الفردوس المستقر في مخيلته البحث عنه .. الفن ببساطة هو ثمرة الصلة بين الروح والحقيقة .. ولذا عند التدقيق في لوحة فنية عميقة .. عند قراءة روايـة رائعة .. يعتري الإنسان شعور غريب وغامض بالسمو والقداسة ودخول عالم الخلود .. الفن كالدين تماما كلاهما يعترف بوجود عالم آخر لكن الفن ليس دينا لكنه تعبير عن الدين فهو الإبن غير الشرعي للحقيقة .. بينما الدين هو الإبن الشرعي للحقيقة .. الإلحاد لن يفهم أبدا جوهر الفن وطبيعته .. فإذا لم يكن هناك روح للإنسان فلِم إذن نحرص على أن يكون للفن روحـا ؟

بالنسبة للفنـان لا يوجد شيء إسمه إنسان داروين ذاك الكائن النمطي الممسوخ البارد .. بالنسبة للفنان لا يوجد شخصـان متطابقان فالإنسان هو كائن متميز ذو سمو روحي.

لا يوجد فنان ملحد .. لا يستطيع الملحد أن يكتب شِعرا أو أن يرسم لوحة أو أن يُنشد بيتـا ولن يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا دخل في الدين لحظة الرسم واعترف بقضية دراما الوجود والبحث عن الخلود ..والمسرحية التي تُمثل دراما الوجود فإن لحظة السكون فيها هي لحظة مليئة بالأحداث ..

إننا لن نفهم هذه المسرحيات وهذه الرسوم إلا عندما نعترف بالوجود الجواني بالإنكار لكل ما هو مادي وخارجي ولن يستطيع ملحد أن يفهم لوحة ولو وقف أمامها دهرا كاملا .. بل سينتقدها نقدا سخيفا للغاية ربما انتقد تماسك الألوان في ناحية وتفككها في ناحية .. ربما انتقد خامة الورق أو مناخ الغرفة .. إن الفن والإلحاد لا يجتمعان .. الفن في صيغته النهائية والأخيرة هو بحث عن المُطلق بحث عن الله .. وإذا امتنع وجود حقيقة دينية امتنع وجود حقيقة فنيـة

  

 موسى وعيسى ومحمد ..والنقطة البؤرية للتوازن التاريخي

 

في تصنيف هيجل للأديان اعتبر الإسلام استمرارا لليهودية -5- وقالت مرسيا إليادي إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقف على حافة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث بمعنى أنه يقف في النقطة البؤرية للتوازن التاريخي -6-.

والقراءة المتأنية للأديان تُشعر أن هناك اتفاقا مسبقا تم في مكان ما بين موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فالنبي محمد يأتي على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التحول الروحي للجنس البشري وهذا ما قالته مرسيا إليادي في كتابها أنماط الأديان المقارنة ..

تعاني التوراة التي بين أيدينا من واقعية مفرطة ويعاني الإنجيل الذي بين أيدينا من روحانية مفرطة - وربما كان الإفراط من وضع الوضَّاعين- لكن أصر القرآن أن يطرح واقعية روحانية مدهشة .. فبالإسلام جوانب قد لا تروق للشعراء والرومانسيين فالقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم ..المسيحية بها مفهوم مفعم بالحيوية عن الألوهية ولكن لم تبلغ الوعي التام بوحدانية الله وبسبب هذه الخاصية في فهم الألوهية ضحَّت المسيحية بتوحيد التوراة في سبيل ثالوث المجامع ومثل هذا التطور غير ممكن في الإسلام فبرغم كل النكبات التي مر بها الإسلام ظل أنقى أديان التوحيد على حد قول لوبون ..

اشتمال القرآن على واقعية التوراة وعدم حاجته لمصدر مادي من خارجه جعله يقف سدا منيعا أمام الشيوعية القادمة من روسيا وشرق أوربا وبنزول محمد من غار حراء إلى ضواحي مكة استطاع أن يجمع بين التنسك والعقل .. الروحانية والمادية .. العين بالعين وأن تعفوا هو أقرب للتقوى .. قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا .. هذه الثنائية الدرامية المثيرة التي تؤهل هذا الدين لأن يقود جموع البشر وترويض مختلف الأفكار.

 

عندما فرض الإسلام الزكاة لم يكن غرضه القضاء على الأغنياء وإنما القضاء على الفقر وهذا هو الفرق بين التطبيق الإنساني والتطبيق الواقعي المقيت ..

الإسلام لم يأت موافقا لتركيبة الجسد أو لتركيبة الروح بقدر ما أتي موافقا لتركيبة الإنسان لأن الإنسان هو المكلف لا الروح وحدها ولا الجسد وحده ..

لا يُحرّم الإسلام على الإنسان أن يتذوق ملح الأرض ولا يفرض عليه مثالية الزهد والرهبنة ولا يوافق لأحد من أتباعه أن يغمض عقله ويسير في قطيع الخراف بحثا عن راعٍ صالح يقودهم إلى الحظيرة بل يجبر الإسلام أتباعه على التفكر وتدبر آيات الكون بل ويضع فرضيات عقلية مدهشة .. فيقول تعالى :- ( فإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ). ويقول تعالى في موضع آخر:- (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ). إنه يطرح افتراضا ينقض الأصول التي قام عليها .. فبينما يمقت الإسلام الشك العبثي نراه يحفز على البحث والتمحيص والتروي والإيمان بالإستدلال .

  

   

ثبوت النبوات

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رائعته إثبات النبوات :- ( ليست المعجزة هي الشرط الأوحد للنبوة فمُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين وقد أسلم السابقون الأولون أمثال أبي بكر الصديق وخديجة والمُبشَّرون قبل انشقاق القمر والإخبار بالغيب والتحدي بالقرآن .)

ويقول رحمه الله :- ( وكثير من الناس يعلم صدق المُخبر بلا آية البتة ..وموسى ابن عمران لما جاء إلى مصر وقال لهم إن الله أرسلني علموا صدقه قبل أن يُظهر لهم الآيات .. وكذلك النبي لما ذكر حاله لخديجة وذهبت به إلى ورقة ابن نوفل .. قال هذا هو الناموس الذي يأتي موسى .. وكذلك النجاشي .. وأبو بكر علموا صدقه علما ضروريا لما أخبرهم بما جاء به وما يعرفون من صدقه وأمانته مع غير ذلك من القرائن يوجب علما ضروريا بأنه صادق.. وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس قد تقترن به قرائن يُعرف بها صدقه بالضرورة فكيف بمن عُرف بصدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا مَن هو أصدق الناس أو أكذبهم وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني -7-.)

يقول الأُستاذ علي عزت بيجوفيتش :- ( والقراءة المتأنية للأديان تُشعر أن هناك اتفاقا مُسبقا تم في مكان ما بين موسى وعيسى ومحمد ) أو بتعبير النجاشي :- إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة فالأنبيـاء ولا جدال قاموا بدور رئيس في تاريخ الإنسـانية ومن خلال الأنبياء فحسب أصبح الإنسـان محورا للتاريخ ... ومن خلال الأنبيـاء فحسب تـأكد سمو الإنسان وقيمته ومركزيته ومنهج القرآن في إثبات النبوات هو أعظم المناهج وأنقاها بعيدا عن الطُرق الكلامية والفلسفية التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع ولذا يعترف الرازي في آخر مصنفاته قائلا:- لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ومِن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي نهاية إقدام العقــــــول عقـــــال وأكثر سعي العالمين ضــلال وأرواحنـا في وحشة من جسومنا وغاية دنيـانا أذى ووبــــــال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا -8-.

 

وكما استخدم القرآن في إثبات وجود الله دليل العناية ودليل القصد ودليل الإختراع ودليل السببية -9- وهي الأدلة السهلة الممتنعة التي لا تُقيم بعدها قولا لقائل فقد استخدم القرآن دليل التحدي ودليل المقارنة ودليل الإخبار بالغيب ودليل خرق العادة وغيرها من الأدلة في إثبات النبوات مما هو مبسوط في مواضعه .

 

وقبل أن يبدأ التحدي لابد أن يمتلك القوم الذين أُرسل فيهم النبي ناصية ما يتحداهم بهم ويكونون فيه المرجع بل والحَكَم حتى إذا ما انتصر عليهم كانوا هم الحاكمين على أنفسهم بالخيبة ولما سمع الوليد ابن المغيرة من النبي

قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

النحل90

قال :- والله إن له لحلاوه وإن عليه لطلاوه وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما هو بقول بشر . فقد رق قلبه وقال والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا .. ولذا اجتمعت كلمة وفود العرب على ألا يسمعوا للقرآن ولا يُسمعوه أهليهم واعتبروا أن هذا هو السبيل الوحيد لمقاومة التحدي بمثل هذا القرآن

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }

فصلت26

فقد جاء القرآن في درجة من البلاغة لم يُعهد مثلها في تراكيب العرب وكانت فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات والغزل والتغني بالأمجاد وكان الشاعر الذي يتقن المديح يضعف عند غيره والقرآن جاء فصيحا في كل فن على نفس المستوى والنسق وجاء القرآن للتأسيس لمنهج حياة في الإقتصاد والسياسة والعبادة وما يُحسن الدين والدنيا دون أن يخرج عن قالبه البلاغي .

يقول دكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم ص 21:- ( القرآن إذن صريح في أنه لا صنعة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من الخلق وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه ومن العجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الإستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة وهو أنه ليس من عند محمد في الحق أن هذه القضية لو وجدت قاضيا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه وأي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة أي مصلحة له كي ينسب بضاعته لغيره ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدا يعارضه ويزعمها لنفسه .. بل وشهد الرسول على نفسه بالعجز  

قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ   

يونس 16. 

ودعوة الأنبيـاء واحدة ومنهجهم واحد وسبيلهم واحد

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قبلك}

(43) سورة فصلت

.. غاية دعوتهم أن

{ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }

(59) سورة الأعراف

غاية دعوتهم ( اسمع يا اسرائيل اعظم الوصايا الرب الهنا رب واحد -10-.) أو بلفظ القرآن

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }

فالإسلام هو أنقى أديـان التوحيد كما يقول جوستاف لوبون .

 

والنبوة لا يقول بها إلا أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين كما قال شيخ الإسلام رحمه الله

 

 

المراجع للإستزادة :- كتـاب الإسلام بين الشرق والغرب .. تأليف:- علي عزت بيجوفيتش .. ترجمة :- محمد يوسف عدس .. مؤسسة بافاريـا

 

المراجع

  1.  ربما تلك كانت فترة تعدد الآلهة بعد موت آدم 
  2. andrew lang : the making of religion (new york 1968
  3. h.g. wels short history of the world ( new york 1946
  4. فالفن هو ثمرة الصلة بين الروح والحقيقة ولا يبدع الإنسان إلا إذا توهجت هذه الصلة فالفن هو بديل المُقدس على الورق والرسوم الجصية ومن لا يعرف الرسم يمارس الفن في حياته الجوانية لذا نتفق أن الإلحاد المجرد يكفر بالفن ..
  5.  george hegel :- early theological writings
  6. mercea eliade patterns in comperative religions
  7.  ثبوت النبوات عقلا ونقلا ص 573.... شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق د.محمد يسري سلامه دار ابن الجوزي
  8. المرجع السابق ص 318
  9. قام الشيخ نديم الجسر رحمه الله ببسط هذه الأدلة وشرحها بالتفصيل في كتابه الرائع قصة الإيمان 
  10.  مرقص 12-29

 

 

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ موسى وعيسى ومحمد ..والنقطة البؤرية للتوازن التاريخي

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day