و أما كراهيتهم للشهرة ، فأخبارهم في ذلك مستفيضة :


الشيخ/ خالد بن عثمان السبت

كانوا يكرهونها أشد الكراهية ، حتى إنّ إبراهيم ابن أدهم رحمه الله قال : " ما صدق الله عبدٌ أحب الشهرة " .

و قال بشر ابن الحارث : " لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه و اُفتضح " ، و قال : " لا يجد حلاوة الآخرة رجلٌ يُحب أن يعرفه الناس " .

و كان مورق العجلي يقول : " ما أحب أن يعرفني بطاعته غيره " .

و لما قدم عبد الله ابن مبارك المصيصة ، سأل عن محمد بن يوسف الأصبهاني الزاهد ، فلم يعرفه أحد ! فلما لقيه قال : من فضلك يا محمد لا تُعرف . رأى أنّ ذلك منقبةً إنّه مغمور لا يعرفه أهل البلد .

و قال أيوب أيضاً : " ما صدق عبدٌ إلا سرّه ألا يُشعر بمكانه " .


و كان الثوري رحمه الله يقول : " وجدت قلبي يصلح بمكة و المدينة " ، لماذا ؟ يقول : " مع قومٍ غرباء أصحاب بتوتٍ و عناء " ، يعني عليهم أكسيه غليظة ، غرباء لا يعرفونني ، فأعيش في وسطهم لا أُعرف كأنّني رجلٌ من فقراء المسلمين و من عامتهم ، يقول قلبي يصلح هناك ، لا يصلح في مكان يعرفني الناس فيه ، يقولون : هذا سفيان ، هذا سفيان ، فيوسعون الطريق و يتبعونه إذا مشى .

و كان الإمام أحمد رحمه الله ، و هو من من هو ، يقول : " أريد أن أكون بشعبٍ بمكة حتى لا أُعرف ، قد بُليت بالشهرة ، إنّي أتمنى الموت صباحاً و مساءً " .

و كانت إذا كثرتُ حلقة خالد ابن معدان الكلاعي يقوم و يترك الناس ؛ مخافة الشهرة .

و كان أبو العالية الرياحي رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام .

و يقول أبو بكر بن عياش : سألت الاعمش : كم أكثر ما رأيت عند إبراهيم النخعي الفقيه المعروف ، قال : أربعاً ، خمسة .

و يقول أبو بكر ابن عياش : ما رأيت عند حبيب بن أبي ثابت ثلاثةً قط – يعني في المجلس - .

يقول أيوب السختياني لأبي مسعود الجُريري : إنّي أخاف ألا تكون المعرفة – يعني الشهرة ، معرفة الناس فيه - أبقت عند الله حسنة ، إنّي لأمّر بالمجلس فأسلم عليهم و ما أرى أنّ فيهم أحداً يعرفني ، فيردون عليّ ، و يسألونني مسألةً ، كأنّ كلهم قد عرفوني ، فأيُ خيرٍ مع هذا ؟

يسألونه مسألة علمية ، مسألة فقيهة ، فيقول أيُ خيرٍ بقي مع هذا ، يردون عليّ بسلامٍ قوي ، لأنّهم عرفوا أنّ هذا أيوب السختياني .

و يقول حماد ابن زيد : كنّا إذا مررنا بالمجلس و معنا أيوب فَسلّم ، ردوا ردا ً شديداً ، قال : فكان يرى ذلك نقمةً و يكتئب لذلك .

و خرجَ مرةً في سفر ، فتبعه أُناسٌ كثير ، فقال : لولا أنّي اعلم أنّ الله يعلم من قلبي أنّي لهذا كاره ، لخشيتُ المقتَ من الله عز وجل .

و كانوا يحبون الهرب ، الهرب من الأضواء ، الهرب من من الرفعة في الأرض و العلو فيها ، كما قال بشر ابن الحارث : " إنّما يراد من العلم العمل " .

اسمع و تَعلّم و عَلّم و اهرب ، ألم ترى إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم فعلِم و علّم و هرب ، و هكذا العلم إنّما يدل على الهرب عن الدنيا ، ليس على طلبها ، العلم لا يدل على التكالب و التصارع على الواجهات الاجتماعية أو على ما يؤدي إليها ، طالب العلم لا يقاتل على منصب ، لا يقاتل على مكانٍ يظن أنّه يُرفع به في الحياة الدنيا ، إنّما يُريد ما عند الله عز وجل ، و كانوا يوصون بذلك .


هذا رجل قال لبشر الحافي : أوصني . قال : اخمد ذكرك و طيّب مطعمك .

و كان عطاء بن مسلم يقول : كنت و أبو إسحاق ذات ليلة عند سفيان الثوري و هو مضطجعٌ عندنا ، فرفع رأسه ثم نظر إلى أبي إسحاق و قاله : إياك و الشهرة .

و قال ابن محيريز لفَضالة ابن عبيد : أوصني ، قال : خصالٌ ينفعك الله بهن ، إن استطعت أن تَعرف و لا تُعرف فافعل ، و إن استطعت أن تَسمع و لا تَكلم فافعل ، و إن استطعت أن تَجلس و لا يُجلس إليك فافعل .

و كان إبراهيم ابن أدهم يقول : " من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول " ، و يقصد بالخمول عدم الشهرة .

و قال ابن محيريز : " اللهمّ إنّي اسألك ذكراً خاملاً " .

قيل لعلقمة : قال له عبد الرحمن ابن يزيد : لو صليت في المسجد و جلسنا معك فتسأل ، فقال : أكره أن يُقال هذا علقمة .

و كان الإمام أحمد رحمه الله يظهر عليه كثيرٌ من الغم ، فدخل عليه عمه مرةً ، و قال له : يا ابن اخي ايش هذا الغم ؟ ايش هذا الحزن ؟! فقال له : يا عم طوبى لمن أخمل الله ذكره .


و سمعتم كلام الشافعي قبل قليل : " وددت أنّ الناس تعلموا هذا العلم على أن لا يُنسب إليّ منه شيء " ، يقصد الكتب التي ألفها .

و أخيراَ هذا فحنون يقول : كان بعض من مضى يُريد أن يتكلم بالكلمة ، لو تكلم بها لانتفع به خلقٌ كثير ، فيحبسها لا يتكلم بها مخافة المباهاة .

و ليس معنى ذلك أيها الإخوان أن نترك الدعوة إلى الله عز وجل ، و الجهاد في سبيله ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و تعليم الناس العلم ، و ما إلى ذلك من القيام على الاعمال الخيرية ، بحجة أننا نؤثر الخمول و لا نريد الشهرة ، السلف رضي الله عنهم كانوا يجاهدون و كانوا أئمةً في الجهاد ، و كانوا يُعلّمون العلم و كانوا أئمة في ذلك ، و ما وصلنا هذا العلم إلا عن طريقهم رضي الله عنهم ، و كانوا يعظون و يدعون إلى الله عز وجل ، و يتوب عليهم الآف البشر ، و دخل على أيديهم أقوام و أمم دخلوا في الإسلام ، وهم الذين فتحوا البلاد ، و نشر الله الهدى و النور على أيديهم ، فكان ذلك بسبب فضل الله عز وجل ثم بجهودهم الخيّرة ، فلا يجوز لأحد أن يقعد في بيته و يترك الدعوة لله عز وجل ، و الأمر بالمعرف و النهي عن المنكر ، و تعليم الناس العلم ، و يقول : إيثاراً للخمول ، هذا لا يقوله أحد .

و إنّما على الإنسان أن يجاهد و يُعلم و يدعو لله عز وجل ، و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يجاهد

نفسه في مدافعة هذه الأشياء ، و البعد عن أسباب الرفعة و العلو في الأرض .

السابق

مقالات مرتبطة بـ و أما كراهيتهم للشهرة ، فأخبارهم في ذلك مستفيضة :

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day