غريب أمر هذا الإنسان

غريب أمر هذا الإنسان


الشيخ/ فريد الأنصاري

 

تبصرة: غريب أمر هذا الإنسان: كيف يجهد لمعرفة حقيقته الاجتماعية، ولا يجهد ذلك الجهد وأقصى؛ لمعرفة حقيقته الوجودية! إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقاً، يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ألا ترى أن الإنسان مفطور على شكر من وصله بمعروف؟ بلى، إذن لم لا تسأل عمن خلقك؟ لا تسرع في الإجابة! لا تقل لي: إنني أعرف الله فأنا مسلم، فما هذا الذي نريد! أنت مخلوق، هذه حقيقة وجودية، فلا أحد منا جاء إلى الوجود بإرادته وقراره، من هنا كان الواجب الأول عليك أن تبحث عن الله الخالق، بهذه الصفة، أعني صفة الخالقية؛ لأنها سبب مجيئك إلى الكون، وإلا كنت عدماً، ولذلك كان أول حق لله رب الناس على الناس، وجب عليهم أداؤه ابتداء: هو وحق الخالقية، أليسوا مخلوقين؟ بلى، إذن تعلق بذمة كل مخلوق أن يشكر الخالق، من حيث هو عز وجل خلقه. و(الخلق) مفهوم من أغرب مفاهيم القرآن العظيم، ومن أكثرها استعصاء على الفهم والإدراك، فهو دال عموماُ على: التكوين والإنشاء؛ إبداعاً واختراعاً؛ أي أنه خلق الخلق على غير مثال سابق، فتأمل هذه الحقيقة أولاً: (على غير مثال سابق) إنه تعالى فَطَرَ خلقه، وأنشأهم ولم يسبق له في ذلك نموذج يحتذى، فسبحانه وتعالى من خالق عظيم! فلقد كان تعالى ولم يكن قبله شيء، هو الأول بلا بداية، وهو الآخر بلا نهاية، جل شأنه، وتعالى جده، ولا إله غيره. تأمل كيف كان خلق الكون؟ كيف كان العدم – وما العدم؟ - ثم كان الوجود بأمر 

{كُن فَيَكُونُ}

[البقرة: 117].

ثم تأمل كيف كان خلق آدم عليه السلام؟ كيف صنع الله من الطين المتعفن بشراً سويّاً؟ يفيض جمالاً وحيوية، عجباً، عجباً! كيف كانت كتل الطين في جسم آدم تتحول إلى شرايين، وشعيرات دموية، وعظاماً ولحماً طرياً؟ عجباً عجباً! كيف تحول الصلصال في محاجرة عليه السلام بصراً ويبرق، ويشع بنور الحياة، ويرى الألوان والأشياء، ويسيل بالدموع فرحاً وحزناً؟ عجباً عجباُ! كيف تَخَلَّقَ الترابُ في جمجمته دماغاً مائعاً مارجاً؟ متكوناً من ملايين الخلايا اللطيفة الحساسة، تجري شعيراتها بالدم الدفاق، وتختزن ملايين المعلومات والذكريات، وتتأهب للتفكير في أدق الخطرات والنظرات؟ عجباً، عجباً! ثم تأمل: كيف جعل من الطين والماء نباتاً جميلاً، فصارت له أزهار تملأ الأنواف عبيراً أخاذاً، وثماراً تملأ القلوب بهجة وجمالاً؟ كيف خرج عنقود العنب الطري الندي، من عود خشن وماء وطين؟ ثم كيف خرج الوليد من بطن أمه، من بعد ما تَخَلَّقَ بأمر الله من ماء مهين نكرهه فطرةً، ونغتسل منه، ماء وسِخ، وما حوله وسِخ، وطرائقة وسِخة، فخرج منه طفلاً أو طفلة تشع بالجمال وتتدفق بالحياة؟ عجباً عجباً! تماماً كما أخرج الله اللبن من بين فرث ودم؛ شراباً صافي البياض لذيذاً.

تدبر قوله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

[النحل: 66- 67]

عجباً عجباً! يا صاح، فتدبر ثم أبصر! ذلك هو (الخلق) الذي تحدى به رب العالمين كل العالمين،

فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}

[النحل: 17]

، وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}

[الحج: 73- 74].

وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان، وجوداً وعدماً: ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي، ناداهم من حيث هو (خالقهم)، هكذا بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من طريق المعرفة بالله، أي أنه تعالى يسألهم أداء حق الخالقية، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة.

تدبر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

 [البقرة: 21- 22].

وتدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}

[النساء:1].

هاتان آيتان كليتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في  معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق لشجرة البشر، ولا يفتأ القرآن يُذَكَّر بهذه الحقيقة، باعتبارها مبدأ كليَّاً من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه،

وذلك نحو قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]،

فكثيراً ما يردد الناس هذه الآية، ولكن قليلاً جداً ما يتدبرونها. إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا،

تأمل قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}   

[نوح:13- 14]،

انظر كيف ربط حقه تعالى على عباده بمبدأ خلقهم أطواراً..

فكلما ازداد الكفار تعنتاً ازداد القرآن إفحاماً، في بيان تفاصيل الخلق، فتلك حجة الله البالغة إجمالاً وتفصيلاً. تدبر معي هذه الآيات واحدة واحدة.. قال عز وجل في حق الكافر الذي أنكر البعث على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بطحين عظام ميتة نخرة، ونفخ فيها فتطاير غبارها من يده، فاستهزأ متسائلا بما حكاه عنه القرآن الكريم،

قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ}

[يس: 78 - 81].

وتأمل كيف أن تلك كانت هي حجة موسى الذي صنعه الله على عينه في رده على فرعون؛ إذا تعنت في إنكاره،

قال عز وجل {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}

[طه: 49- 50]،

إنه تعريف للربوبية ولحقوقها في عبارة من أوجز العبارات الربانية المسطورة في القرآن الكريم..

فتدبر.. {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}

[طه: 50].

وجاءت الحجة الربانية في بيان الأطوار الوجودية للإنسان أيضاً

في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ  ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}

[عبس:17-23]

وقال في سياق التمهيد لقصص الأنبياء بعض الأنبياء، ودحض حجج المنكرين للبعث

: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}

[المؤمنون: 12- 16]،

تأمل: ما بال هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا السؤال الإنكاري الرهيب، عن الوظيفة الوجودية للإنسان إذ تمتع بمنة الخلق، ثم غفل عنها وتناساها.. اقرأ وتدبر جيداً، واقرأ وأعد القراءة مرة وأخرى؛ لعلك تبصر..

قال جل جلاله : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}

[القيامة: 36-40].

وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات حق الخالقية لله الواحد القهار؛ كانت هي عينها حجته في الدعوى إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي للشركاء،

وذلك كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

[الروم: 40]

، وقال {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}

[الأعراف: 191]،

وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}

[النحل: 17]..

أنه قول ثقيل جداً، فتدبر.. ثم أبصر!

ومن أثقل الآيات القرآينة، وأعمقها دلالة على الموقع الوجودي للإنسان من الخلق؛

قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيراً إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}

[الإنسان: 1- 5]،

ولنا مع هذه الآية وقفة تدبر آتية بحول الله.. إلا أن المهم الآن أن نثيت لك أولاً؛ أن (قضية الخلق) ثمثل مفتاح فهم الربوبية، والمعنى الوجودي والوظيفي للإنسان، ولولا خشية الإطالة لبينت لك من خلال كل سور القرآن بدون استثناء؛ أنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء.

- ولتبسيط الأمور؛ ننطلق عمليًا من آيتين مما أوردنا من كتاب الله نجعلهما محور قضيتنا، ونفسر في ضوئهما كل الآيات الأخرى؛ نظراً لشمولية البيان فيهما، أو لغوصه إلى أعمق ما في مسألة الخلق من أبعاد كونية.

فأما الآية الأولى فقوله تعالى – مما سبق إيراده –

من سورة البقرة { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

[البقرة: 21 - 22]

أنت ترى أن الله جل جلاله يأمر الناس بعبادته بصفته خالقاً لهم:

{ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ }

[البقرة:22]

ثم مكن لهم العيش في عالم هيئ أصالة لاستقبالهم:

{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

[البقرة:22].

فإنشاء كل هذا إنما هو (لكم) لا لغيركم. فالمستفيد منه بالقصد الأول إنما هم الخلق، والإنسان خاصة وهناك تعبير صريح في القرآن عن هذا، وذلك قوله تعالى بُعَيد آيات في السورة نفسها:

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

[البقرة:29]

، ثم قال بعد مباشرة:

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }

[البقرة:30].  

- فخَلْقُ ما في الأرض جميعاً كان من أجل الإنسان بصريح عبارة القرآن، ثم كان خلق السماوات بناء فوق الأرض سقفاً لها،

{سَقْفاً مَحفُوظاً}

[الأنبياء: 32]

، وكان بعد ذلك خَلْقُ الإنسان، ثم سخر كل ما بينهما لخدمته:

{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ }

[لقمان: 20]

، وقد مهدت له كل أسباب الحياة والعمران، إنه تدبير رحيم، وتكريم عظيم، لهذا الإنسان، من حيث هو إنسان،

كما قال سبحانه: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }

[الإسراء: 70]

، فالأمر الوارد إذن في سورة البقرة:

{اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}

[البقرة: 21]

جاء في سياق قصة الخلق الأول والاستخلاف الرباني للإنسان في الأرض. وهذا منطلق مهم لفهم حقيقة الإنسان، وطبيعة العبادة المطلوبة منه لله رب العالمين. فالغلاف الكوني كله في خدمة الإنسان خلقاً وتسخيراً. 

ومن هنا كان الشرك ظلماً؛ لأن الله هو وحده الذي خلق، وبهذا المنطق وجب أن يكون هو وحده الذي يعبد، وأي إخلال بهذا الميزان ظلماً كبيراً،

وهو قول الله عز وجل: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

[لقمان: 13]،

وبهذا المنطق أيضاً نقم الله على المشركين، كما سبق من آيات من

مثل قوله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }

[الأعراف:191]،

وقوله سبحانه: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }

[النحل:17].

تبصرة:

إن جماع الأمر في هذه النصوص كلها أنه تعالى: خَلَقَنا وخَلَقَ لنا، هذا مبدأ قرآني كوني عظيم وجب تدبره.. وهو ما سميناه بــ (حق الخالقية)؛ فتأمل!  

وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى – مما سبق ذكره أيضاَ –

من سورة الإنسان: { َهلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }

[الإنسان: 1- 2].

إنها لمن أعظم الآيات القرآنية الباهرة! آية تملأ القلب هلعاً ووجلاً، تدبر معي كيف أن الإنسان دأب على التذكر والتفكير في الزمان، من عمره الفردي والاجتماعي، سواء تعلق ذلك بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولا شيء بعد ذلك.

والمقصود بالعمر الفردي، وحدة العمر المعروفة بالنسبة لكل فرد من الناس في نفسه، فالإنسان في هذه الحال يفكر بطبعه في الماضي، وهو التذكر والذكريات، ويفكر في الحاضر وهو هم المعاش والحياة اليومية والأعمال الحالية، ويفكر في المستقبل وهو التخطيط والتدبير لمقبل الأيام، وهو ما يحدوه من حياته طول الأمل والطموح، وهو على هذا حتى يموت، هذا هو الإنسان من الناحية الزمانية.

وأما العمر الاجتماعي فالمقصود به النفكير الجماعي في الماضي وهو علم التاريخ الذي قد يدرس فيه الإنسان مرحلة ما قبل ماضيه الشخصي، لكنه ماضي الإنسان الاجتماعي على كل حال، كما أنه قد يفكر في زمانخ الحاضر والمستقبل، وهو شأن مؤسسات الدولة والمجتمع في التخطيط والتدبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام.

والإنسان في جميع الأحوال المذكورة إنما يفكر في شيء واحد هو (أنا)، بمعناها الفردي والاجتماعي. والعجيب في الآية المذكورة أنها أرشدته، بل أيقظته بأسلوب التنبيه إلى التفكير في مرحلة ما قبل العمر.. وهو مجال يندر جداً أن يطرق بال الفكر البشري، على المستويين الفردي والجماعي على السواء.

هل سألت نفسك مرة: أين كنت أنت بالذات: (فلان ابن فلان، أو فلانة)، قبل أن يتزوج أبوك أمك؟ سل نفسك إذن؟ أو أين كان الإنسان – بالمعنى الجماعي – قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام؟  وللتبسيط ابق في السؤال مع نفسك فقط، وتفكر! تذكر تاريخ ميلادك؟ قبل ذلك بسنة، أين كنت؟ وماذا كنت؟

تلك مرحلة ما قبل العمر.. فكيف تفسرها؟ وكيف تتصورها؟

{ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً }.

[الإنسان: 1]؟

إنك لن تستطيع تصور شيء ولا تخيله لأنه عدم، والعدم لا يمكن تخيله، إذ لو أمكن تصوره – حتى ولو بمجرد الخيال – لكان من الممكنات. وعلم ذلك غير ممكن إلا لله العليم الخبير، سبحانه وتعالى فهو وحده

{بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}

[البقرة: 29].

المهم ها هنا عندنا أن تدرك أنك لم تكن ثم كنت. وهذا فضل عليك من الله الذي قال لك: كن! فكنت! أي خلقك ولم تكن شيئاً مذكوراً.. لا شيء أنت حينئذ، لا ذكر لك. واللاشيء لا اسم له ولا مفهوم ليذكر، لا في الممكنات الشيئية، ولا في المدركات الذهنية.

ألم ين ممكناً ألا تكون؟ بلى، لأن الله خلقك بإرادته، وبمشيئته تعالى، وكما يشاء للشيء أن يكون، فقد يشاء للشيء ألا يكون، فهو سبحانه يتصرف في أمره وكونه كما يشاء ويختار. وما ينقص من كون الله العظيم لو أنك أنت – يا فلان بن فلان – لم تكن فيه؟ طبعاً لا شيء، لا شيء. هذا البشر ممتد نسله، طولاً وعرضاً، يملأ الآفاق الأرضية في كل مكان.

ثم كنتَ يا صاح برحمة الله وفضله، كنت بعد ذلك شيئاً مذكوراً، فتفكر،

وتدبر: { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً }

[الإنسان:1]،

إن هذه الآية العظيمة لهي من أثقل الآي القرآني حملاً على الإنسان! والقرآن العظيم – لو تدبرت – ثقيل كله،

قال عز وجل : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

[الحشر: 21]،

وقال سبحانه: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }

[المزمل: 5]

، وثقل آية الإنسان الذي لم يكن فكان، راجع – فيما هو راجع إليه – إلى ما يترتب على الوعي بهذه الحقيقة من أعباء الحق الإلهي العظيم، حق الخالقية، أليس لم تكن ثم كنت؟ بلى، إذن تعلق بذمتك حق الذي كان له الفضل وحده في ذلك، الذي خلقك، ومن هنالك جاء قوله بعد في السورة مباشرة:

{ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }

[الإنسان: 2]،

على هذا الوزان من الاعتراف بهذا الحق، والشكر له أو عدمه، كانت الجنة والنار وتفرقت أصناف الخلق بينهما أبراراً وكفاراً، كما هو في تتمة الآيات من سورة الإنسان، وغيرها من آي القرآن كثير.

تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله:

إن هذا الحق بقدر ما هو متعلق بذمة الإنسان، لربه الذي خلقه، فإنه يستفيد منه معنى عظيماً لوجوده، إن إحساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين، أو بعبارة قرآنية: يخرجه

{ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }

[البقرة: 257].

وأي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! أو كما قالوا: (إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع!) فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في متعها وهو يعتقد أنها إلى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالباً إلى الشره المتوحش في تناولها، أو إلى العزوف القَلِق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال! فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين. إن معرفة الله من هاهنا تبدأ؛ الشعور بالفرح به تعالى رباً خالقاً، والأنس بجماله عز وجل إلهاً رحيماً؛ فيمتلئ القلب شوقاً إليه تعالى، ثم تنشط الجوارح للسير إلى بابه الكريم، والعروج إلى رضاه، عبر مدارج السالكين، ومنازل السائرين، فيجد الإنسان الأنس كل الأنس كلما ازداد معرفة  بالله جل جلاله. وإنما مدارج المعرفة به تعالى أن ينطلق المسلم من توحيد الربوبية، الذي ينفتح بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه، ذلك أن الرب إنما هو رب من حيث هو مالك للمربوب، ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع، قال ابن منظور: (الرَّبُّ: هو الله عز وجل، هو رَبُّ كلِّ شيءٍ: أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ. ولا يقال الربُّ في غير الله، إلا بالإضافة (..) ورَبَّه يَرُيُّهُ رَبَّا: مَلَكَه).

فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة صاحب السيادة عليها. إلا أن (المالكية) الحقة، إنما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع والإبداع، إنشاءً وتطويراً. ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله سبحانه وتعالى في ربوبيته للكون والخلق أجمعين. إنه مالك كل شيء خلقاً وإبداعاً، وزيادة ونقصاً، وإحياءً وإماتةً، وبدءاً وإعادةً، وبعثاً ونشوراً. وما كان ذلك كله ليكون لولا أنه هو عز وجل الذي خلق. ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى، نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، في بدء تعريفه بالله رباً:

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }

[العلق: 1]،

فهو الرب إذن، وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه: { الَّذِي خَلَقَ }؛ لأن الربوبية إنما ترجع في حقيقتها إلى هذا المعنى كما بيناه آنفاً. ومن هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منه، بدءاً بالفاتحة:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }،

حتى سورة الناس

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }

. فالقرآن كله إذن قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب المربوبين، عسى أن تستجيب فطرهم لأداء حق الربوبية، بتوحيد الألوهية عبادة لله رب العالمين. وخلاصة الأمر: أن الخالق، وأن المالك رب، ذلك أنه تعالى خلق فملك، وملك فرَبَّ. فهذه معان بعضها يحيل على بعض، حتى لفظ (الرب) جماعها؛ فجمع بذلك كل أوصاف الكمال والجمال والجلال، من الأسماء الحسنى والصفات العلي.

ولننصت الآن في ذلك إلى القرآن العظيم، حيث يقول الله عز وجل معرفاً بذاته سبحانه:

{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

[الحشر:24]،

فقوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ }

جملة اسمية من مبتدأ وخبر، فيها معنى الجواب عن سؤال تقديره: سؤال السائل عن الرب (من هو؟)،

فقال: {هو الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }

[الحشر: 24]؛

أي (الرب هو الله)؛ لأن الضمير (هو) لا بد أن يعود على معاد سابق، كما قال الله حكاية لحوار فرعون مع موسى وهارون:

{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }

[طه: 49- 50].

وكما في وقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

[الإخلاص:1].

ثم كانت الإحالة – في نهاية الأمر- في تعريف الرب على (الأسماء الحسنى)، بعدما ذكرعز وجل بعضها، فقد جاءت الآية المذكورة من سورة الحشر في سياق التعريف بالله عز وجل من خلال بعض أسمائه،

وذلك قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

[الحشر: 22- 23]. 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ غريب أمر هذا الإنسان

  • صور الفتنة

    الشيخ سلمان العودة

    إن الفتنة تأخذ صوراً شتى، منها: أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويساعده ولا

    18/05/2013 4697
  • المحور الأول: العقل

    مجدي الهلال

    ا-  إن كان سلوك الإنسان ينطلق من المشاعر، والتي تشكل في مجموعها قلب الإنسان، فإن ما يحرك هذه المشاعر هو الفكر

    08/05/2023 232
  • المحور الأول: العقل

    مجدي الهلال

    ا-  إن كان سلوك الإنسان ينطلق من المشاعر، والتي تشكل في مجموعها قلب الإنسان، فإن ما يحرك هذه المشاعر هو الفكر

    04/04/2023 373
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day