النفوس ثلاثة: أَمارة، ولوامة، ومطمئنة


فريق عمل الموقع

 

قالوا: وأيضاً فالمحبة الخالصة الصادقة حقيقتها أنها نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإِذا احترق ما سوى مراده عدم وذهب أثره، فإذا بقى فى القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبة تامة ولا صادقة، بل هى محبة مشوبة بغيرها، فالمحب الصادق ليس فى قلبه سوى مراد محبوبه حتى ينازعه ويدافعه، والآخر فى قلبه بقية لغير المحبوب فهو جاهد على إخراجها وإعدامها.

 

 

قالوا: وأيضاً فالواردات الإلهية ترد على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلب فارغاً خالياً من العوارض والمنازعات ودواعى الطبع والهوى ملأَته على قدر فراغه، وإذا امتلأَ منها لم يبق لأضدادها وأعدائها فيه مسلك، وإذا صادفت فيه موضعاً مشغولاً بغيرهم من الأَغيار لم يساكن ذلك الموضع فيدخل الضد والعدو من تلك الثلمة، كما قال القائل:

 

لا كان من لسواك فيه بقية    يجد السبيل بها إليه العذل

 

وقال:

 

ومهما بقى للصحو فيه بقية   يجد نحوك اللاحى سبيلاً إلى العذل

 

قالوا: وأيضاً فدواعى الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إما جهل وإما ضعف، فإنها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أَو يكون عالماً بذلك، لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية، وما كان سببه جهلاً أو عجزاً لا يكون كمالاً ولا مستلزماً لكمال، وأَما القلب الخالى منها ومن الاشتغال بدفعها فقلب شريف قوى علوى رفيع. قالوا: وأيضاً فهذه الإِرادات والدواعى لا تسير العبد، بل إما أن تنسكه إن أجابها، وإما أن تعوقه وتوقفه إن اشتغل بمدافعتها، وأَما إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنة بربها، فكل إرادة منها تسير به مراحل على مهلة، فهو يسير رويداً وقد سبق السعادة كما قيل:

 

من لى بمثل سيرك المذلل   تمشى رويداً وتجيء فى الأول

 

قالوا: وأيضاً فإن هذه الدواعى والإرادات إنما تحمد عاقبتها إذا ردت صاحبها إلى حال السليم منها فيكون كماله فى تشبهه به وسيره معه، فكيف يكون أكمل ممن كماله إنما هو فى تشبهه به؟

 

 

قالوا: وأيضاً فالنفوس ثلاثة: أَمارة، ولوامة، ومطمئنة.

والنفس الأَمارة هى المطيعة لدواعى طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمارة هى تلك الدواعى والإرادات فتستحكم فتصير عزمات، ثم توجب الأفعال. فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعى. وأما النفس المطمئنة فهى التى عدمت هذه المباديء فعدمت غاياتها، فكيف تكون مباديء النفس الأَمارة مما يوجب لها مزية على النفس المطمئنة؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة أيضاً لقولها.

والحق أن كلا الطائفتين على صواب من القول، لكن كل فرقة لحظت غير ملحظ الفرقة الأُخرى، فكأَنهما لم يتواردا على محل واحد، بل الفرقة الأُولى نظرت إلى نهاية سير المجاهد لنفسه وإِرادته وما ترتب له عليها من الأَحوال والمقامات فأَوجب لها شهود نهايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله، والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته فى شأْنه ذلك ونهاية النفس المطمئنة فأَوجب لها شهود الأَمرين الحكم بترجيح القلب الخالى من تلك الدواعى ومجاهدتها، وكل واحدة من الطائفتين فقد أَدلت بحجج لا تمانع، وأَتت ببينات لا ترد ولا تدافع.

 

 

وفصل الخطاب فى هذه المسألة يظهر بمسأَلة يرتضع معها من لبانها ويخرج من مشكاتها.

وهى أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟ فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأُولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محى أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله. قالوا: ولأَن التوبة هى الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأُولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إِنما هو فى التوبة النصوح.

 

 

قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أثر الذنب فى الحال بالإقلاع عنه وفى المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره فى الماضى جملة، ومن أَثره فى الماضى انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده، فلابد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.

 

 

 

قالوا: ولأَنه لو بقى نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت فى الماضى شيئاً، وإِن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأْثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأُولى لضعف عن تبليغه تلك المنزلة التى وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأْثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأْثير عن إِعادته إلى المنزلة الأولى.

 

 

قالوا: وأيضاً ربط [فالله سبحانه ربط] الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع [الله] بقلبه إليه أولاً فرجع الله إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة  العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً فتاب بها العبد، وتاب الله عليه قبولاً ورضى. فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله؟ قالوا: وأيضاً فإن التوبة من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين: وأعظمها عناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كل شئ، وهى من أحب الطاعات إلى الله [سبحانه] فإنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت بهذه المثابة فالآتى بها آت بما هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل [له] مزيد تقدم وعلو درجة، فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل.

 

 

قالوا: وأيضاً فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة [أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو فى التوبة] النصوح الكاملة، وجانب [العدل ولهذا كان من جانب العدل آحاد بآحاد وجانب] الفضل أرجح من جانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه.

 

 

قالوا: وأيضاً فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية، والعبد إذا مرض ثم عوفى وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت، بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، لأنه ربما كان معه فى حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيراً مما كانت وأكمل، وفى مثل هذا قال الشاعر:

 

لعل عتبك محمود عواقبه    وربما صحت الأجسام بالعلل

 

وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال: أنه يعود خيراً بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضاً بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط فى حصولها، وإن حصل له محبة أُخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإن الله يحب التوابين، ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التى كان عليها أولاً انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوى الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذى كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن الله قال لداود عليه السلام: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود.

وهذا كذب قطعاً، فإن الود يعود [بعد] التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته، وأيضاً فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم [فرح] وأكمله وهو لا يحبه.

وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ  وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود} [البروج: 13- 14] تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبداً، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يهيج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفاً على ربه- الذى لا إله إلا هو ولا رب له سواه- عكوف المحب الصادق على محبوبه الذى لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبداً.

 

 

واحتجوا أيضاً بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف [والإشفاق] ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له فى دنياه وآخرته، ولم تكن هذه الأُمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بدون لازمة محال، والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

ولهذا قال بعض السلف:

لو لم تكن التوبة أحب الأشياءِ إليه لما أصاب بالذنب أكرم الخلق عليه.

 

 

وقيل: إن فى بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام: يا داود، كنت تدخل على دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على الملوك.

 

 

قالوا: وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِنْدَنَا لزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [سورة ص: 25]، فزاده على المغفرة أمرين: الزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأُمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف. والثانى: حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأْوى عند الله.

 

قالوا: ومن تأمل  زيادة القرب التى أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد بعد التوبة يعود خيراً مما كان.

 

 

قالوا: وأيضاً فإن للعبودية لوازم وأحكاماً وأسراراً وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هى حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول: طريق معبَّد أى مذلل بوطءِ الأقدام.

 

 

والذل أنواع: أكملها ذل المحب لمحبوبه،

الثانى: ذل المملوك لمالكه،

الثالث: ذل الجانى بين يدى المنعم عليه المحسن إليه المالك له،

الرابع: ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدى القادر عليها التى هى فى يده وبأمره.

 

 

وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له فى أن يجلب له ما ينفعه.

والثانى: ذل له فى أن يدفع [عنه] ما يضره على الدوام. ويدخل فى هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن.

 

 

فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بين يدى ربه مستصحباً لها شاهداً لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره.

 

قالوا: وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضره أَن يخلى المطى وحاديها، ويعطى القوس باريها.
 
فللكثافة أَقوام لها خلقوا     وللمحبة أَكباد وأجفان 
السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ النفوس ثلاثة: أَمارة، ولوامة، ومطمئنة

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day