الضابط الجامع


الشيخ / فريد الأنصاري

- الضابط العشرون، وهو:

الضابط الجامع

والضابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة! إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)، ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم. وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ. فأما عهد الفعل فهو يتلخص في ثلاثة التزامات:



- الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.(1) فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!(2) ويكفيك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

(استقيموا ولن تحصوا! واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة! ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن!)

رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والدارمي، والبزار، والبيهقي، والطبراني. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ‌رقم‌:‌ 952.



- الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادا إيمانيا يوميا، ومنهجا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني. فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها.


- والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك نعمة إيمانية – إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة!(3) فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت.

والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى:

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)

(الأعراف:170).

تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة، وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير.

(إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).

ولا أفضل في تلك من خدمة كتاب الله تعالى عموما! ثم لا أفضل في هذه من خدمته بإقامة (مجالس القرآن)، والدعوة إلى بنائها وتكثيرها في الأمة، ونشرها بين الأُسَرِ والأقارب، وبين الأحباب والأصحاب، سواء في صورة (المجالس الأسرية)، أو في صورة (صالونات القرآن).

والحقيقة أن المؤمن إذا استفاد من (صالون القرآن) بمجلس عام؛ وجب أن يفكر في أبنائه وأهله، وألا يحرمهم من هذا الخير العظيم، ويتفرد هو من دونهم بالتزود من نوره. وإنما منهج الأنبياء والصديقين أنهم كانوا يدخلون نور الإيمان إلى ذويهم أولا! وقد مدح الله نبيه إسماعيل عليه السلام بذلك فقال جل ثناؤه:

(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)

(مريم:55).

ومن هنا فالمجلس القرآني الناجح حقيقة، هو الذي استطاع جلساؤه أن ينقلوا التجربة الإيمانية إلى داخل أسرهم؛ بتكوين (مجالس أسرية) للقرآن الكريم، يكون جلساؤها: الأطفال والملائكة! فأنْعِمْ به من مجلس مبارك إذن! وأنْعِمْ به من بيتٍ طاهرٍ، أفاض عليه الله بالنور والجمال!

هذا ويمكن أن تتعدد صور إخراج مجالس القرآن وصالوناته، وذلك بتنظيمها – مثلا - على حسب المهن، أو على حسب الاختصاصات، أو على حسب الأحياء السكنية، أو على حسب الأعمار، كـ(مجالس الشباب) مثلا.

ومن أهم الصور الضرورية لمجالس القرآن التي ينبغي أن تبادر الأمة إلى إنتاجها: (مجالس النساء)! وقد كان ذلك موجود ومطلوبا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو الذي أسسها عليه الصلاة والسلام بنفسه، وأشرف عليها بذاته! فقد ترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب هل يُجْعَلُ للنساءِ يومٌ على حِدَةٍ في العِلْم؟) ثم أخرج بسنده رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:

(قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عليكَ الرِّجالُ! فاجْعَلْ لنا يوما من نفسك! فوَعَدَهُنَّ يوماً لَقِيَهُنَّ فيهِ، فَوعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ!).. الحديث.

رواه البخاري.

ولا شك أن إحياء (مجالس النساء) بتأسيس مجالس قرآنية لهن خاصة! هو إحياء للسنة، ووعي عميق بالضرورات المعاصرة لانطلاق الأمة، واستئناف سيرها في بعثة تجديد الدين.

وإنها لدعوة للإيمان، وخدمة للقرآن، وأي خدمة! لمن رام الدخول في أنوار الآية العظيمة:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ! وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ!)

(فصلت:32-34).

والله الموفق للخير والمعين عليه.


وأما (عهد الترك) فهو أيضا يتلخص في ثلاثة التزامات، وهي تتحقق عند المؤمن بمعاهدة الله – جَلَّ جلالُه - على ترك الموبقات الثلاث – أعاذنا الله وإياكم منها! -  والانقطاع عنها بتاتا! فلا يصح سيرٌ إلى الله ولا يستقيم؛ ما دام العبد متلبسا بها أو ببعضها، وما دام لم يتب منها توبة نصوحا! وعهده فيها هو كما يلي:


- معاهدةُ اللهِ – جَلَّ جَلالُهُ - على ترك المال الحرام، وعلى رأسه الربا بكل صوره، وكذلك كل كَسْبٍ حرام، وأكل أموال الناس بالباطل، من رشوة وغيرها.


- معاهدة الله على ترك الزنا، وعدم الاقتراب من طرقه، وأسبابه، ومقدماته، وتجلياته، من مُخَادَنَةٍ، وبَذَاءَةٍ، وعُرْيٍ، وفُحْشٍ في اللباس والكلام والأخلاق...إلخ. وكذا مجاهدةُ النفس على غَضِّ البصر، وترك النظر الحرام! لأن النظر الحرام يطمس البصيرة، ويذهب بالحياء، ويطفئ نور التقوى في القلب، ويخسف بجمالَ الورع في النفس، ثم يمسخ وجه صاحبه! وهو سبب كثير من الفساد والبلاء، والعياذ بالله! فلا تستهن به!

- معاهدةُ الله تعالى على ترك الخمر، ومقاطعتها من كل الوجوه بتاتا: شربها، وإنتاجها، وتجارتها، وسائر الخدمات القائمة عليها بإطلاق! ومحاربة ملحقاتها من سائر أنواع المخدرات!


فإذا ثقلت عليك الانطلاقة إلى الله، ولم ينكشف لك نور القرآن، ولم تتبين لك حقائقه الإيمانية بمجالسه، أو لم تستقم لك الصلواتُ الخمس على مواقيتها وجماعاتها، أو لم يتخلص لك خشوعُها وجمالُها؛ فراجع نفسك في هذه الموبقات الثلاث! أو في ملحقاتها! وانظر: ما مدى أدائك لحق الله فيها؟ فإنه لا يستقيم للعبدِ سَيْرٌ إلى مولاه؛ ما لم تزل فيه لَوْثَةٌ من هذه اللوثات الثلاث! فلتتحرر من عبادة الشيطان أولا! حتى تكون عبدا لله بحق، وتستحق صفة "جليس الملائكة"! فإنما "الجلساء" هم الأتقياء! وآنئذ يقال لهم ولمن معهم:

(هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)

كما سبق بيانه في الحديث مفصلا(4).


المراجع

  1. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوما في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى؛ كُتِبَتْ له براءتان! براءةٌ من النار، وبراءةٌ من النفاق!) رواه الترمذي في سننه، والبيهقي في شعبه، وعبد الرزاق في مصنفه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، بينما حسنه فقط في صحيح الجامع الصغير.
  2.  انظر إن شئت (البلاغ الرابع) من كتاب (بلاغ الرسالة القرآنية)!
  3. لقد تم تفصيل الأدلة الدالة على فضل هذه الأعمال الثلاثة في الإسلام بما فيه الكفاية في كُتَيِّب بلاغ الرسالة القرآنية. ضمن (البلاغ السابع).
  4. لا ينبغي أن يفهم أن هذا الجليس الذي (لا يشقى بهم)، ممن وُصِفَ في الحديث المذكور بذلك؛ أنه امرؤ سوء، أو أنه شخص فاسق أو فاجر! ثم مع ذلك صار منهم! كلا! فهذا المعنى لا يستقيم، وإنما عبارة الحديث هي قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقول مَلَكٌ من الملائكة:‌ فيهم فلان! ليس منهم، إنما جاء لحاجة‌!‌ فيقول‌ [ أي الله تعالى ]:‌ هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!)(متفق عليه) فليس ذلك بمعنى أنه شخص منحرف بالضرورة، كلا قطعا! وإنما غاية ما يستفاد من العبارة ومن مقتضياتها الدلالية هو أنه شخص لم يجلس مع الجلساء لقصد التلاوة والتدارس، أو لقصد التعبد، وإنما جاء لغرض له عند أحدهم فهو ينتظره مثلا، أو نحو ذلك من المعاني التي لا تقدح في صلاحه ومروءته. وعبارة الحديث لا تمنع أن يكون الرجل من الصالحين! ولذلك لحق بهم، ما دام هو الآن جالس في مجلسهم، ولو لغير قصدهم في هذه الساعة! وهذا - مع ذلك - لا يمنع أن يقصد قصدهم فيها بالتبع لا بالأصالة، كما يعبر الأصوليون! 


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الضابط الجامع

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day