البلاغ السادس في اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً

البلاغ السادس في اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً


الشيخ/ فريد الأنصاري

لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية؛ إلا عن طريق اتباع المبلِّغ: محمد بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين، هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى، وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به، وإن شئت فقل هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع.

قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

[الحشر:7]

، وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}

[آل عمران: 31-32].

والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة.

فهذا أمر لا يماري فيه إلا جاهل بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.

فإذن؛ كل حديثنا مما كان قبلُ؛ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من خلال السنة النبوية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وضوح الآيات: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". لا نقاش في هذا، وما هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير. وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول عليه الصلاة والسلام: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس.

وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد. كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن السنة. وتلك أم المصائب؛ إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه، لقد اقتصر كثير منهم في السنة على منهج التعلم دون التزكية والتحلم، فضلوا وأضلوا..

تدبر قول الله عز وجل:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

[آل عمران: 164].  

    

وقوله سبحانه وتعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

[الجمعة: 2].

تبصرة:

إن النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهم يقوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: (التزكية والتعليم)، فاقرأ الآيتين وتدبر.. فعجباً كيف فهم بعضهم من ابتاع السنة والتأسي بها مجرد استظهار بعض الأحاديث، دون الرحيل إلى أخلاقها والتزكي بمقاصدها، والانتقال إلى منازلها؟

أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة، وأما تعلم ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله، والالتزام بحدوده؛ فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات.

أما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها،

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}    

[الشمس: 9 - 10]،

فالرسول الكريم كان حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان، إلى ما هو (أحسن عملاً)، من مثل قوله لعبد الله بن عمر:

(نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل).

وانظر – رحمك الله – كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه قال: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقد تقدم ذكر التعليم على التزكية – بناء على الأصل –

في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

[البقرة: 129]

. صحيح أن العطف بالواو – في الآيات كما هو في العربية – لا يفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب در المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها؛ وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين.

تقول لي : وما بال التحلم؟ أقول: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلَّم ولا زَكَّى إلا بحِلْم، فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتزكية لديه صلى الله عليه وسلم، كما سترى بحول الله.

والحِلْمُ: الرزانة والكياسة والرحمة والأناة، وهو ضد الجهالة والسفه، والتَّحَلُّمُ: تخلق الحلم، وتكلفه؛ حتى يصير لك خلقاً. ومعنى (اتباع السنة  تحلماً): التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ أي في حلمه، وصبره على جهالة الناس، وسفههم قال عليه الصلاة والسلام:

"إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه".

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ البلاغ السادس في اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day