البلاغ الخامس في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

البلاغ الخامس في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الشيخ / فريد الأنصاري

ألم تعلم بأن الإسلام رسالة؟ ألست أنت مسلماً؟ إن كنت كذلك حقّاً؛ فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه من الإسلام: الرسالية، قال صلى الله عليه وسلم في أمر مطلق لكل الأمة:

(بلغوا عني ولو آية).

ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه منذ أعلن أن محمداً رسول الله تقلد – بمقتضى عقيدة الاتباع – مهمة الدعوة إلى الله. فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل وسائل الخير والهدى، كما في قوله:

(فَوَ الله لأّنْ يَهْدِيَ الله بِلَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ). ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}

[آل عمران: 110]،

إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار؛ ولذلك كان حديث تغيير المنكر دالّاً على العموم، وليس له ما يقيده – في المأمورين به – إلا شرط الاستطاعة ورتبتها. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبَلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ." ، وقد بيَّنا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بيَّنا إلزامية ذلك لكل مسلم على قدر مرتبته من الاستطاعة. بل قد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عزمة شديدة على المسلم؛ أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما حضره؛ قال عليه وسلم: "إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس".

فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً، وجماعة؛ إذ الرابط الجماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة. قال عز وجل:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

[التوبة: 71]

، فجاءت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله. تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكين، إذ الدعوة إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة: فالمجتمع المسلم لا يقوم حقيقة إلا بالدعوة إلى الله وسيلةً.

قال عز وجل:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}

[النحل: 125]

. وإذا قام كان من أهم خصائصه الدعوة إلى الله غايةً إلى جانب الصلاة والزكاة على سبيل التلازم.

فتدبر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ  الأُمُورِ}

ومن هنا رسم الله سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً.

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}

[يوسف: 108].

فقوله تعالى: {هَذِهِ  سَبِيلِي} جملة اسمية دالة كما هي عند النحاة والبلاغيين على الثبات. وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق:

{أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}

[يوسف: 108]. الآية

، وجاء تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية ، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة لإسلام المسلم، متى تفاعل مع إسلامه، واستقام عليه. ومن هنا أيضاً جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية من القرآن الكريم. وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله عنه من قوله تعالى:

{يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}

[لقمان: 17]

. وقال جل جلاله في وصف جميل لمؤمني أهل الكتاب تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل؛ مع جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات:

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} .

[آل عمران: 113 - 115]

وجعل من سننه تعالى في الخلق أن كان أمنهم الوجودي والنفسي والاجتماعي؛ مرتبطاً باستقامة أحوالهم: وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة الدينية الموفرة لظروها؛ بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط اختل الأمن الوجودي للأمة.

قال تعالى يعرض صورة شاملة لإحسان التدين:

{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }

[سورة هود:114 - 117].

تبصرة:

إلا أن لنا هاهنا قاعدة مشهورة عند العلماء، وهي: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى (الخير) أولاً. والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو يؤدي إلى معرفة الله، أو هو عين معرفة الله وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما؛ ينتج عنه منكر أكبر منه؛ توجه حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف.

وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي إلى ما هو أفظع منه؛ توجه وجوب ترك ذلك النهي؛ إلى حين، كما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله في قوله: (وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها (...) فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته). وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سئية، أو اختيار العبارات غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداء ، مما لم يراع فيه الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة. ولذلك كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة:

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}

[آل عمران: 104]،

من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجييب، الذي يجعل المرء يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً، فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير – كما قلنا – هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله.. فتدبر!

وعليه، فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام، والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار. وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله. فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

[آل عمران: 102- 105].

إنها آيات تُشَدُّ إليها رحال المصلحين الربانيين.. فأصبر! ألا ما أبعد واقعنا المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة! إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواء؛ كانت منحرفة عن (الخير)، وإن كانت في ظاهرها (أمراً) بمعروف ونهياً عن منكر)، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر! ثم اصبر! ولنجعل خاتمة كلامنا في هذا البلاغ الخامس، آيات الدعوة إلى الله من سورة (فصلت)، ذات (القواعد العشر)، إنها خلاصة القول فيه، وجماعه. فقد فصلت المنطلقات تفصيلاً، وحددت الغايات تحديداً، وضبطت الوسائل ضبطاً. إنها منهج متكامل بذاتها في الدعوة إلى الله. وإن الناس اليوم لو أخذوا بها وحدها في هذا الشأن لكفتهم. اقرأها أولاً، ثم لنتعاون معاً على تدبرها ثم إبصارها آية آية إن شاء الله؛ عسى أن نصل إلى رسم منهاج قرآني للدعوة إلى الله.

قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

[فصلت: 30- 36].

هذه هي القواعد العشر في الدعوة، فاعقد أناملك يا صاح كما تفعل عند إحصاء الأشياء وأحص معي أصولها من خلال هذه الآيات واحدةً واحدةً، وتدبر!

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ البلاغ الخامس في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day