الدَّلِيلُ السَّابِع عَلَى بُطْلانِ مَقُولِة (إنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وَربٌّ)


ماجد بن سليمان

الدَّلِيلُ السَّابِع عَلَى بُطْلانِ مَقُولِة (إنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وَربٌّ): أنَّه وَرَدَ في الْمَصَادِر الإِنْجِيليَّةِ عنِ الْمَسِيحِ نَفْسِه أنَّه رسُولٌ، فَلَوْ كَان الْمَسِيحُ ربًّا وإلـٰهًا لَمَا اسْتَقَام أنْ يَكُون رَسُولًا أيْضًا، رَسُولًا مِنْ عِنْد مَنْ إِذَنْ؟!


وقدْ كَانَ الْمَسِيحُ دَائِمًا يُذَكِّر تَلامِيذَه أنَّه رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، وأنَّه مُـعَـلِّمٌ، وأنَّ اللهَ هُو الإلـٰهُ وحْدَه، وأنَّه لَيْسَ إلَّا مُجَرَّد رَسُولٍ إِلى بَنِي إسْرَائِيلَ، أرسله الله إليهم لِـيُـعَـلِّمَهم أُمورَ دِينِهمْ، وسَنَذْكُرُ هَنَا نحو عشرين دَلِيلًا عَلى ذَلِك مِنَ الأَنَاجِيلِ الْمَعْتَبرَةَ عِنْدَ الْمَسِيحيين:


,1-  فِي «إنْجِيل مَتَّى» (4/23): «وكَانَ يَسُوعُ يَتَنَقَّل في مَنْطِقَةِ الْجَلِيلِ كُلِّهَا، يُـعَـلِّمُ في مَجَامِعِ اْليَهُودِ، ويُنَادِي بِبشَارَة الْمَلَكُوت».

,2-  وجَاء في «إنْجِيل مَتَّى» (4/17): «مِنْ ذَلِك الزَّمَان ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُـكَـرِّز ويَقُولُ: تُوبُوا لأنَّه قَد اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوات».   

ومَعْنَى (يُـكَـرِّز) أي: يُـبشِّر.
وقَوْلُ يَسُوعَ: (تُوبُوا) دَلِيلٌ عَلى أنَّه رَسُولٌ، يُحِثُّ النَّاس عَلى التَّوْبَة مِنْ فِعْل الْمَعَاصِي.
,3-  وجَاءَ في «إنْجِيل مَتَّى» (6/8 - 10) أنَّ يَسُوعَ قَالَ لِتَلامِيذِه: 


«لأنَّ أبَاكُم يَعلَمُ مَا تَحْتَاجُون إِلَيه قَبْلَ أنْ تَسْأَلُوه.
فَصَلُّوا أَنْتُم هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي في السَّمَاوات، لِيَتَقَدَّس اسْمُك، لِيَأتِ مَلَكُوتَك.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُك كَمَا في السَّمَاء كَذِلك عَلى الأَرْضِ».


في هَذَا النَّصِّ فَائَدةٌ: أنَّ اليَسُوع عَـلَّم تَلامِيذَه كَيْفِيَّة الصَّلاة، فَهُو إِذَن نَبيٌّ، لأنَّ وَظِيفَةَ الأَنْبِياءِ هِي التَّعْلِيم، وهُو الشَّاهِد.
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ اللهَ في السَّمَاء، لِقَولِه: (أَبَانَا الَّذِي في السَّمَاواتِ)، فَدَلَّ عَلى أنَّ اللهَ لَه ذَات، وهِي في السَّمَاء، والْمَسِيحُ لَه ذَاتٌ أُخْرَى في الأَرْضِ، وأنهما غير ممتزجتين ولا مُـتَّـحِدتين.


وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ الأَبَ بِمَعْنَى الْمُربي والقَائِم عَلَى الشَّيءِ، ولَيْسَتْ بِمَعْنَى الأَبِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، لأنَّه لوْ كَانَتْ كَلِمَةُ الأَبِ تَعْنِي الأَبِ مِنْ جِهَةِ النَّسَب لَكَانَ اللهُ أبَ النَّاسِ كُلِّهم، لأنَّه قَالَ: (أَبَانَا) ولمْ يَقُل: (أَبي).


فالحاصلُ أن في هذا النص رَدٌّ واضح عَلَى مَنْ قَالَ بِأَنَّ أُبُـوَّة اللهِ للْمَسِيحِ هِي أُبُـوَّةُ نَسَبٍ، وأَنَّهَا تُقَابِل أُمُومَة مَرْيمَ للْمَسِيح، فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ الأُبُوة هُنَا تَعْنِي التَّرْبِية والْقِيام عَلى رِعَايَة الشَّخْصِ، وبِنَاءً عَليه، فَإنَّ اللهَ هُو أَبو النَّاس كُلِّهم بِهَذَا الْمَعْنى

.
,4-  وجَاء في «إنْجِيل مُرْقُص» (1/14، 15) نصٌّ وَاضِحٌ في أنَّ يَسُوعَ نبيٌّ بشَّر بِالإِنْجِيل وعَلَّم النَّاسَ الْخَيرَ وهُو:

 
«وبَعَدَمَا أُلقِي الْقَبْض عَلَى يُوحَنَّا، انْطَلَقَ يَسُوعُ إلى مَنْطِقة الْجَلِيل يُبَشِّر بِإِنْجِيل اللهِ قَائِلًا:
قَدِ اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، واقْتَربَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وآمِنُوا بِالإِنْجِيل».
فَهَذَا النَّصُّ فِيه فَائِدةٌ: أنَّ الْمَسِيح نَبيٌّ، لأنَّه كَان يُبَشِّرُ بِإِنْجِيل اللهِ، ويَأْمُر النَّاسَ بِالتَّوبَة إِلى اللهِ، وهَذِه وظِيفَة الأَنْبِياء، ويَأْمُرُهمْ بِالإِيمَان بِالإِنْجِيل الذي كان معه.


وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدَةٌ: أنَّ ذَاتَ اللهِ لَيْسَتْ هِي ذَاتَ يَسُوعَ، لأنَّه قَالَ: (واقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ)، ولوْ كَانَ اللهُ هُو الْيَسُوعَ لَقَال: (واقْتَرَبَ مَلَكُوتي).
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدَةٌ: أنَّ يَسُوع أَمَرَ تَلامِيذَه بِالإيمَانِ بِإِنْجِيل اللهِ، ولوْ أنَّ الْيَسُوع هُو اللهُ لَقَال لَهُم: (فَتُوبُوا وآمِنُوا بِإِنْجِيلِي).
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ إِنْجيل اللهِ لَيْس أَحَدَ الأَنَاجِيل الأَرْبَعةِ الْمَعْرُوفَة: (يُوحنَّا، لُوقَا، مُرقُص، متَّى)، لأنَّ يَسُوع سَمَّاه (إِنْجيلَ اللهِ)، بَيْنَما الأَنَاجِيل الأَرْبَعة الْمَعْرُوفة تُسَمَّى بِأَسْمَاء مُؤلِّفِيها الَّذِين كَتَبُوهَا بِأَيْدِيهمْ.


,5-  وجَاءَ في «إنْجِيل لُوقَا» (4/31-32، 43-44) نَصٌّ وَاضِحٌ جدًّا عَنِ اليَسُوع أنَّه رَسُولٌ، وهُو:


«وانْحَدَرَ إِلى كَفْر نَاحُوم، مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيل، وكَانَ يُـعَلِّمُهم في السُّبوتِ، (أي: أَيَامِ السَّبْتِ)، فبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِه، لأنَّ كَلامَه كَانَ بِسُلْطَانٍ».
ثمَّ قَالَ للْجُمُوع الَّذِين طَلَبُوا مِنْه الْبَقَاء مَعَهُم: «إنَّه يَنْبَغِي لي أنْ أُبَـشِّر الْمُدُنَ الأُخَر بِمَلَكُوت اللهِ، لأنِّي لِهَذَا قَدْ أُرسِلت.
فَكَانَ يُـكَـرِّز في مَجَامِع الْجَلِيل».


فَقَوْلُه: (أُرسِـلتُ) تَدلُّ عَلَى أنَّه رَسُولٌ، وكَذَلِك قَوْلُه: (أُبَشِّر)، وكَذَلِك قَوْلُ مَـتَّـى: (يُـكَـرِّز)، كُلُّها تَدُلُّ عَلَى أَنَّه رَسُولٌ مِنَ اللهِ، يُعَلِّم النَّاسَ الإِنْجِيل.
,6-  وفي «إنْجِيل لُوقَا» (7/11-17) أنَّ يَسُوع ذَهَبَ إِلى مَدِينَةٍ اسْمها نايين، يُرَافِقُه كَثِيرون مِن تَلامِيذِه وجَمْعٌ عَظيمٌ، وفي نِهَايَة القِصَّة قَالَ أَهْلُ الْمَدِينة: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وتَفَقَّد اللهُ شَعْبَه»، وذَاعَ هَذَا الْخَبر عَنْه في كُلِّ الْمَنَاطِق الْيَهُودِيَّة، وفي جَمِيع النَّواحِي الْمُجَاوِرَة. 
فَفِي هَذَا النَّصِّ دَلالةٌ صَريحةٌ عَلَى أنَّ الْمَسِيح نَبيٌّ عَظيمٌ، ولَيْس رَبًّا ولا ابنَ الرَّبِّ.


,7-  وهَذَا نَصٌّ صَريحٌ آخَرُ عَلَى أنَّ الْمَسِيح رَسُولٌ، فَفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (17/3) أنَّ الْمَسِيح دَعَا رَبَّه فَقَال: «وهَذِه هِي الْحَياة الأَبَدِيَّة أنْ يَعْرِفُوك أَنْتَ الإلـٰهُ الْحَقِيقِي وحْدَك، ويَسُوع الْمَسِيح الَّذِي أَرْسَلْتَه».


,8- وفي «إنْجِيل مَتَّى» (21/10-11) شَهَادةٌ مِنْ جُموع بَني إسْرَائِيل للمَسِيح بِأَنَّه نَبيٌّ:
«ولَمَّا دَخَلَ أُورْشَلِيم ارَّتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّها قَائِلةً: مَنْ هَذَا؟ 
فَقَالتِ الْجُمُوع: هَذَا يَسُوع النَّبيُّ الَّذِي مِن نَاصِرة الْجَلِيل».
فأيُّ دَليلٍ عَلَى نُبُوة الْمَسِيح أَصْرَحُ مِنْ هَذَا؟!


,9- وقَالَ يَسُوع لِتَلامِيذِه كَمَا جَاء في «إنْجِيل مَتَّى» (5/11-12) وهُو يُسلِّيهمْ ويُصَبِّرهُمْ عَلى الأَذَى الَّذِي جَاءَهُم مِنَ الْيَهُود:
«طُوبى لَكُم إذَا عَيَّرُوكُم وطَرَدُوكُمْ, وقَالُوا عَلَيْكُم كُلَّ كَلِمَةٍ شِريرةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبينَ.
افْرَحُوا وتَهَلَّلُوا، لأنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ في السَّمَاواتِ، فَإِنَّهُم هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِياءَ الَّذِين قَبْلَكمْ».
فَقُولُه: «افْرَحُوا وتَهَلَّلُوا، لأنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ في السَّمَاوَات» دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الْمُكَافِئ والْمُجَازِي هُو اللهُ، ولَيْسَ الْمَسِيح، وأنَّ الْجَزَاء لَا يَكُون إلَّا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيامَة، ولوْ كَانَ الْمَسِيح هُو اللهَ لَقَال لَهُم: (لأن أجركم عظيم عندي).
وقَوْلُه: (فَإِنَّهُم هَكَذَا طَرَدوا الأَنْبِياء قَبْلَكُم)، يَعْنِي بِهَذَا الْيَهُود، فَإِنَّهُم اضْطَهَدُوا الأَنْبِياء قَبْلَه.


وقَوْلُه: (الأنبياء) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّه نَبيٌّ مِنْ جُمْلَة هَؤلاءِ الأَنْبِياءِ الَّذِين تَعَرَّضُوا للاضْطِهَادِ، ولو لم يكن المسيح نبيا لكان كَلامُه لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، وحَاشَاه مِن ذَلِكَ.

وفي هَذَا النص الإنجيلي دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هو الرب ولا ابن الرب، بَلْ بَشَرٌ مِثْلُنا، لأنه تعرَّض للابتلاء والتضييق من قِـبَـلِ اليهود، كما حصل لغيره من الأنبياء، ولو كان المسيح ربا أو ابن الرب فَلنْ يَتَعَرَّض لشيء من الابتلاء، لن البشر لا يَقوَوْن عَلَى ابتلاء الرَّبِّ الَّذِي خَلَق كُلَّ شَيءٍ، وهُو أَقْوى مِنْ كُلِّ شَيءٍ.


قَال «جوستاف لوبون» في كِتَابه «حَيَاة الْحَقَائِق» (ص 20):
«كَانَ يَسُوعُ مُعْتَقِدًا أَنَّه نَبيٌّ، خَلَفٌ لِمَن ظَهَرَ قَبْلَه مِنَ الأَنْبِياء».
,10-  وقَالَ الْمَسِيح كَمَا في «إنْجِيل مَتَّى» (5/17-19):
«لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أو الأَنْبيَاء. مَا جِئتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكْمِل.
فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاء والأَرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أوْ نُقْطةٌ وَاحِدةٌ مِنَ النَّامُوس حتَّى يَكُونَ الكُلُّ.
فَمَنْ نَقَضَ إِحْدى هَذِه الْوصَايا الصُّغْرَى وعَلَّم النَّاسَ هَكَذا، يُدْعَى أَصْغرَ في مَلَكوتِ السَّمَاوات. وأمَّا مَنْ عَمِل وعَلَّم، فَهَذَا يُدْعَى عَظِيمًا في مَلَكُوت السَّمَاوات».


فَقَوْل الْمَسِيح: (لا تَظَنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أو الأَنْبِياء. مَا جِئتُ لأَنْقُضَ بَل لأُكْمِلَ)؛ دَليلٌ وَاضِحٌ عَلى أنَّه رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِه الرُّسل، وأنَّه وَاحِدٌ مِنْهُم، لأنَّ مَنْ جَاءَ لِيُكْمِل ويُتَمِّم الشَّرِيعة الَّتي سَبَقَتْه -وهِي التَّوْرَاة، شَرِيعَة مُوسَى- ويُكْمِل مَا بَنَاه مُوسَى ومَنْ سَبَقَه مِنَ الأَنْبِياء قَبْلَه، فَإِنَّه لا يَكُون إلَّا نَبيًّا مِثْلَهم.


وقَدْ جَاءَ تَصْديقُ ذَلِك في القُرْآنِ الْكَرِيمِ في قَوْلِه  عَنِ الْمَسِيح ڠ أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾( ).
فَالْمَسِيحُ ڠ لمْ يَكُن إلَّا نَبيًّا رَسُولًا، أَرْسَله اللهُ للْعَمَل بِشَرِيعَة مُوسَى ڠ، وتَحْلِيلِ بَعْض مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَى بَني إِسْرَائِيل، ودَعْوةِ بَني إسْرَائِيلَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وتَجْديدِ مَا انْدَثرَ مِن دِينهِمْ، وليَبْعَثَ فِيهِمْ جَذْوةَ الإِيمَانِ الَّتي انْطَفَأتْ بظُلْمِهم وعُتُوِّهم، وتَحْريفِهِم لِكَلامِ اللهِ .
فَلا شَكَّ أنَّه ڠ لَيْسَ إلَّا حَلقةً في سِلْسِلة الأَنْبِياء والْمُرْسَلينَ ۏ ولَيْسَ ربًّا وإلـٰهًا كَما يَعْتَقِد الْمَسِيحيُّون.


,11-  وقَالَ يَسُوعُ كَمَا في «يُوحَنَّا» (37:5): «والآبُ نَفْسُه الَّذِي أَرْسَلَني يَشْهَدُ لِي. لمْ تَسْمَعُوا صَوتَه قَطُّ، ولا أَبْصَرْتُم هَيْئَتَه».
فَهَذَا النَّصُّ صَريحٌ في أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ، لِقَولِه: (أَرْسَلَني).


,12- وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (8/31، 39-40، 42) وفي مَعْرِضِ جِدَالِ الْمَسِيحِ للْيَهُودِ الَّذِي آمَنَ بَعْضُهُم بِه وكَفَر بَعضُهم، قَالَ الْمَسِيحُ ڠ: 
«إنَّكُم إنْ ثَبتُّم في كلمَتي فَبِالْحَقِيقَة تَكُونُون تَلامِيذِي، وتَعْرِفُون الْحَقَّ والْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».
ثمَّ قَالَ: «لَوْ كُنْتُم أوْلادَ إبْرَاهِيمَ لَكُنْتُم تَعْمَلُون أَعْمَالَ إبْرَاهِيمَ، ولَكِنَّكُم الآنَّ تَطْلبُون أنْ تَقْتلُونَني، وأنَا إْنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعه مِنَ اللهِ».
ثمَّ قَالَ لَهُمْ: «لأنِّي لمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي».
فَفِي هَذَا النَّصِّ وحْدَهُ ثَلاثةُ أَدِلَّةٍ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ بَشَرِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ولَيْسَ إلَـٰهًا:
الأوَّلُ: قَوْلُه: (تَلامِيذِي)، وهَذَا لَا يَنْطِبقُ عَلَى الْمَسِيح إلَّا إذَا كَانَ معلمًا رَسُولًا.
والثَّانِي: قَوْلُه: (أنا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَه مِنَ اللهِ)، فَهَذَا نَصٌّ واضِحٌ في أنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ مُرسلٌ مِنْ عِنْد اللهِ إلى بني إسْرَائِيل، نقل لهُم مَا أوحى الله إلَيه عَن طريق ملَك الوحي، وهُو جبريل.
والثَّالثُ: قَوْله: (ذَاك أرْسَلني) واضِحٌ في أنَّ الْمَسِيح رسول من عند الله.
فَهَذِه النُّصُوصُ الإِنْجِيليَّة وَاضِحةٌ وصَرِيحةٌ في أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هُو اللهَ ولا ابنٌ للهِ، بَل هُو بَشَرٌ خَلَقَهُ اللهُ، ورَسُولٌ مِن عِنْدِ اللهِ، هَذَا الَّذِي يُمْلِيه الْمَنْطِقُ والْعَقلُ والْفَهْمُ الصَّحِيحُ، ولا تَحْتَاج هَذِه النُّصُوص إلى عَالِمٍ أوْ مُتَخَصِّصٍ بِاللَّاهُوت لِكَي يَشْرَحَهَا، بَلِ الطِّفْل والشَّخْص العَادِي يَسْتَطِيع فَهْمَهَا بِسُهُولَة.
,13-  وقَدْ جَاءَ تَقْريرُ أنَّ اللهَ أَرْسَل الْمَسِيحَ رَسُولًا ومُعَلِّمًا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (3/1-2):
«كَانَ إنْسَانٌ مِنَ الفَرِيسيينَ اسْمُه نيقوديموس، رَئيسٌ للْيَهُود.

هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيلًا, وقَالَ لَهُ: يا مُعَـلِّم، نَعْلَمُ أَنَّك قَدْ أَتَيتَ مِنَ اللهِ مُعَـلِّمًا، لأنَّ لَيْسَ أحَدٌ يَقْدِرُ أنْ يَعْملَ هَذِه الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَل إنْ لمْ يَكُن اللهُ مَعَه».
فَقَوْلُ رَئِيسِ الْيَهُود للْمَسِيح: (يَا مُعَـلِّم، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيتَ مِنَ اللهِ مُعَـلِّمًا)، هَذَا تَقْريرٌ أنَّ الْمَسِيح أَرْسَلَه اللهُ إلى الْيَهُودِ رَسُولًا ومُعَلِّمًا، لأنَّ الرَّسُول يُعلِّم النَّاسَ مَا أَرْسَلَه اللهُ بِه مِنَ الْعِلم، ومِنَ الْمَعْلُوم أنَّ الْمَسِيح قَدْ عَلَّم النَّاسَ الإِنْجِيل، ودَلَّهم عَلَى الْخَيرِ، وحَذَّرَهُم مِنَ الشَّر.
وليلاحِظ القارئ الكريم أن رَئِيسُ الْيَهُود لم يقل للْمَسِيح إنَّه جَاءَ فَادِيًا، أوْ مُخَلِّصًا، أوْ إنَّه ابنُ اللهِ، أوْ إنَّه هُو اللهُ، ولا غَير ذَلِك مِنَ الأَقْوالِ السَّائِدة بَينَ جَمَاهِير الْمَسِيحيين، بل قال له إنه جاء معلمًا، والْمَسِيحُ أقَـرَّ هَذَا الْيَهُودِي عَلى كَلامِه، ولمْ يَقُل لَهُ: (إنَّك مُخْطِئٌ في كَلامِك)، ولوْ كَانَ هَذَا الْيَهُوديُّ مُخْطِئًا في كَلامِه لما أقَـــرَّه المسيح، بل لاعْتَرَضَ عَلَيهِ وصَحَّحَ كَلامَه، لأنَّ هَذِه وظِيفَتُه كَـمُـعَـلِّم، وهِي أنْ يُقِرَّه عَلَى الصَّواب، ويُصْلِحَ لَهُ الْخَطَأَ، وإلَّا لمْ يَكُن مُعَلِمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وهُنَا فَائدةٌ لَطِيفةٌ في قَوْلِ رَئِيسِ الْيَهُودِ للْمَسِيحِ: (لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَات الَّتِي أَنْتَ تَعْمَل إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَه)، وهِي أَنَّ في هَذَا دَلِيلًا عَلى نبوة المَسيح، لأنَّ الله لا يُؤيِّد بالآيات والمعجزات إلَّا الأنبياء، لتكون دليلًا ماديًّا للناس على نبوتهم، فيصدقوهم، لأن البشر إذا رأوا الأنبياء يأتون بخوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله علِموا أن الله أجراها على أيديهم لِـيَـعلم الناس أنهم أنبياء، ومِنْ ذَلِكَ أن المسيح كَانَ يُحْيِي الْمَوتَى، ويَشْفِي الأَبْرَصَ، ويبرئ الأَكْمَهَ (أي الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى)، ويُـنَـبِّـئُ النَّاسَ بِمَا يَأْكُلُونَ ومَا يَدَّخِرُونَ في بُيوتِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، وكُلُّ هَذَا بِإِذْنِ اللهِ، ولَيْسَ للْمَسِيحِ فِيه قُدْرَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وعِلْمٌ مُسْتَقلٌّ، لأنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ، لا أَكَثْرَ ولا أَقَلَّ.


,14-  ومِنَ الأدِلَّة الإِنْجِيليَّة عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّه مَا جَاءَ في «يُوحَنَّا» (7/15-18) أنَّ الْمَسِيحَ ذَهَبَ لِجُموعِ الْيَهودِ يُريدُ أنْ يُعَلِّمَهُم، فَحَصَل التَّالي:
«فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وهُو لمْ يَتَعَلَّمْ؟!
أَجَابَهُمْ يَسُوعُ, وقَالَ: تَعْلِيمي لَيْسَ لِي، بَلْ للَّذِي أَرْسَلَنِي.
إنْ شَاء أَحَدٌ أنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِف التَّعْلِيم، هَلْ هُو مِنَ اللهِ، أمْ أَتَكَلَّم أَنَا مِنْ نَفْسِي.
مَنْ يَتَكَلَّم مِنْ نَفْسِه يَطْلُب مَجْدَ نَفْسِه، وأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَله فَهُو صَادِقٌ ولَيْسَ فِيه ظُلْمٌ».
فَالْيَهُود انْبَهَرُوا مِنْ حُسْنِ التَّعَالِيم الَّتي كَانَ الْمَسِيحُ يَبثُّهَا بَينَ النَّاسِ، وتَعَجَّبُوا مِنْهَا، فَبيَّنَ لَهُم الْمَسِيح أَنَّهَا مِنَ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَه، فَهُو تَلَقَّاهَا مِنْه عَنْ طَرِيقِ أَعْظَمِ الْمَلائِكَة وهُوَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ بَثَّهَا في النَّاسِ، فَهَذِه وظِيفَتُهُ كَرَسُولٍ، ولَيْسَتْ تِلْك التَّعَالِيم مِنْ صُنْع نَفْسِه، ولوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُو الرَّبُّ لَقَالَ: (هَذِه التَّعَالِيم مِنْ عِنْدِي) ولمْ يَقُل: (إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ)، وبِنَاءً عَلَيه فَالْمَسِيحُ لَيْسَ هُو الرَّبَّ ولا ابنَ الرَّبِّ.


,15-  وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (7/28-29): 
«فَنَادَى يَسُوعُ وهُو يُـعَـلِّم في الْهَيكلِ قَائِلًا: تَعْرِفُونَني وتَعْرِفُون مِنْ أَيْنَ أَنَا، ومِنْ نَفْسِي لمْ آتِ، بَل الَّذِي أَرْسَلَنِي هُو حقٌّ، الَّذِي أَنْتُم لَسْتُمْ تَعْرِفُونَه.
أنَا أَعْرِفُه، لأَنِّي مِنْه، وهُو أَرْسَلَنِي».


,16-  كَمَا جَاءَ أنَّ الْمَسِيحَ أَخْبرَ قَوْمَه بِأَنَّه رَسُولٌ كَمَا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (32/7-33):
«سَمِعَ الْفَرِيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَناجَونَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِه، فَأَرْسَل الْفَرِيسِيونَ ورُؤسَاء الْكَهَنَة خُدَّامًا ليُمْسِكُوه.
فَقَالَ لَهُم يَسُوعُ: أنَا مَعَكُم زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلى الَّذِي أَرْسَلَنِي».


,17-  وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (5/24): 
«الْحَقُّ الْحَقُّ أَقُول لَكُمْ: إنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلامِي ويُؤمِن بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَه حِياةٌ أَبَدِيَّة».

,18-  وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (18/19-20) وَرَدَ نَصٌّ واضحُ كالشمس يُبَيِّن أنَّ الْيَسُوع كَانَ معلما، وهُو:
«فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ.
 أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلَانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».
فدل ذلك على أن اليسوع كان معلمًا له تلاميذ، وهذه مِن صفات الرسل.


,19-  الدليل الإنجيلي الأخير على أن الله أرسل المسيح رسولًا هو ما جاء فِي «إنْجِيل مَتَّى» (15/24) أنَّ يَسُوع قَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إسْرَائِيلَ الضَّالَّة».
فأيُّ دليل أصرح من هذا؟!
وخُلاصَة الْكَلامِ: أَنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهَذَا مُتَطَابِق مَعَ قَوْلِ اللهِ تَعَالى في القرآن في وصف الْمَسِيح: ﴿ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾( ).
وتَفْسِيرُ الآيَةِ: مَا الْمَسِيحُ ابنُ مَرْيمَ ڠ إلَّا رَسُولٌ كَمَنْ تَقَدَّمَه مِنَ الرُّسل، وأُمُّه صِدِّيـقـةٌ، أَيْ: صَدَّقتْ بِكَلام رَبِّهَا تَصْدِيقًا جَازمًا، وظَهَرَ تَحْقِيقُ ذَلِك في عِلْمِهَا وعَمَلِهَا الصَّالِح، وهُمَا -أَي: الْمَسِيحُ وأُمُّهُ- كَغِيرهما مِنَ الْبَشَر، يَحْتَاجَانِ إِلى الطَّعَام، ولا يَكُون إلـٰهًا مَنْ يَحْتَاج إِلى الطَّعَام لِيَعِيش. 
ثمَّ قَالَ اللهُ مُخَاطِبًا نَبِيَّه محمدًا: ﴿ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾؛ أي: تَأمَّلْ أَيُّها الرَّسُولُ حَالَ هَؤلاءِ، كَيْفَ وضَّحْنا لَهُم أَدِلَّة بُطَلان مَا يَدَّعونه في الْمَسِيحِ مِنْ أَنَّه ابنُ اللهِ، ثمَّ هُمْ مَعَ ذَلِك يَضِلُّون عنِ الْحَقِّ الَّذي نَهْدِيهم إِلَيه، ثُمَّ انْظُر كَيفَ يُصْرَفُون عَنِ الْحقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيانِ؟
تَمَّ الدَّلِيلُ السَّابِع، ونَنْتقِل الآنَ إِلَى الدَّلِيل الثَّامِن مِنْ أَدِلَّة بُطْلان مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ).

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الدَّلِيلُ السَّابِع عَلَى بُطْلانِ مَقُولِة (إنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وَربٌّ)

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day